نبوءة العقل

نبوءة العقل

الخير والشر في جدلية التاريخ

  حين استعصى على الإنسان معرفة الغاية من معنى وجوده في الحياة عاش أطوار المعاناة والشقاء والخوف من المصير المجهول بحثاً عن سبل الخلاص في محاولة استيعاب ما يدور حوله عله يجد منفذاً للموائمة بين الظروف والأخطار والتي شخصها من وعي المقاربة الذهنية بالمطلب الضرورة للبقاء قياساً بانعكاسات الخير والشر على وجوده..

فعلى سفر البدايات الأولى لمراحل ما قبل التاريخ ارتبط وعي الإنسان بالخير والشر من خلال الشواهد والمؤثرات الطبيعية لمتغيرات البيئة المحيطة بحياته وعوارضها المتأرجحة بين تدني وشحة المعرفة وحاجته الظرفية للبحث عن وسائل التعاطي معها(كالحر والبرد والقوة والضعف والأمان والخوف والنبات والجفاف والجوع والغذاء والمرض والصحة والموت والحياة) ناهيك عن محاذير التوجس المفترض لمواجهة قوانين وأخطار الطبيعة العارضة (العواصف والرياح والبراكين والزلازل والبروق والرعودوالمطر والجفاف)ومن ثم المخلوقات النوعية التي شخصت مفارقات الحجم والقوة تجسيد الخطر على وجوده واستقام وعيه بها على تجريد الخيال للقوانين الماورائية بالثنائية المتضادة للخير والشر فيما استوعبها في مراحل التأسيس المعرفي من وحي التأمل والمقاربة الذهنية للتناقض بين قسوة الحياة وعطائها بفرضية انعدام الوفاق مع الظواهر والقوانين الماورائية والتي جسد فيها آلهة الخير والشر وصراع الأضداد كما تروي لنا أساطير وملاحم الديانات القديمة(السومرية والاكادية والاشورية والزرادشتية والمانوية والغنوصية والمزدكية) ثم تطورت في الديانات التوحيدية إلى وحدة الخير في الإله الواحد وتحققه بالسمو والكمال والتفرد بملكات القدرة والعلم والحضور الكلي وتقييد الشر بالشيطان بوصفه عقل الغواية والانحراف وما تفرع عن دلالاته من أضداد .. 

وتبيان القصد أن مراحل استيعاب الإنسان لعلاقته بالوجود والحياة انطلقت في بداية الأمر من محاولة البحث عن تفسير لمعضلة ما وراء الخير والشر في الطبيعة الكونية وحاجته الظرفية لانتظام علاقته معها والتي تشكلت مبدئياً في سياق تشخيص الأثر المنعكس عن عناصرها وتضليلها بالقوى الماورائية المتصرفة صلة بتجسيد قدراتها لمقاصد الإلوهة المحتملة كقرينة مماثلة للملك والجبروت في التحكم والسيطرة والتوجيه المجاز احتوائه بوجوب احتراز التراضي المحمول على توثيق قواعد الامتثال والطاعة المفترضة في السياق الموازي لاختزال التضاد قاعدة كونية لصراع الخير والشر ..

وكنتاج لاختلاف مؤثرات الارتباط بطبيعة البيئة فقد تشكلت التجارب العقائدية والسلطوية على غرار الظروف وتداعياتها والتي تبلورت في شكل التباين المعرفي وبرزت منازعاتها الفكرية في صيغة الجدل التاريخي المحمول على فرضية تشخيص كل اتجاه لظواهر الخير والشر في تناقضات الوجود قياساً بتوصيف المعالجات الظرفية لانضباط علاقات الواقع..

 والبداية في مقتضى الاستدراك أن فهم الإنسان لطبيعة الوجودوالحياة اقترن بسطحية المقاربة الاحتمالية للواقع المتناقض وعي امتداد متصل في صياغة ملابساته للتجارب المتداخلة بتعارض الخير والشر في كل مسألة عارضة فرضت بدورها أن يعيش إشكالية البحث عن الاستقرار وعياً ظرفياً متلازماً مع عفوية الغموض والتعقيد والتسليم العائم بقيود الانطباع ..

 ولذلك فنحن غالباً ما نعلل الظواهر والأحداث بسطحية المقاربة الذهنية لفرضية الاحتمال أو المؤثر الظرفي وقل أن نراها بعين الفصل بين تداخلات الخير والشر وعوارضهما المتشابكة في وعينا أو باستقراء التجارب ونتائج انعكاساتها على حياتنا بشواهد الخطأ والصواب والحق والباطل والانحراف والانتظام قضية فاصلة في توجيه مصيزنا في الحياة ..

وكثيراً ما نعيش التجارب والوقائع والأحداث بوعي مقاصدها الغائية وجذور انطباعاتها الثقافية والعقائدية التقليدية واقعاً مسترسل الخلل والتعقيد يحتكم وجودنا لعفويتها في التشكل الزمني باستكانة وتسليم أعمى دون النظر إلى ملابسات أخطائها ومحاذير انعكاسات تأثيرها السالب على مجريات التعايش المتعثر في استيعاب  طبيعة الحياة ..

وعلى بيد التشخيص يقودنا هذا الاستقراء إلى أن جدلية التاريخ ظلت ولا زالت تدور في نفس المحور الذي أرسى إشكالية المعرفة بالخير والشر أزمة ممتدة فرضت طبيعتها تمحور الإنسان في محاولة استيعاب الظلال دون النظر إلى كونه محور التناقض وأساس بنيانه العاكس لطبيعة النتاج..

فهو صانع الخير بما اكتسب من معرفة سوية أضفت جدواها روافد المنفعة لذاته وللبشرية كصلة امتداد وهو صانع الشر وبيدقه بما تشكلت به نفسه الحيوانية من تناقضات وتطلعات ..وليس الوجود سوى الوسيلة المجردة باستيعاب نظامه قاعدة كونية لقوانين الثبات..

وقضية الخير والشر من حيث  تلازمها مع سيكولوجية الإنسان  وتفاعلاته في الحياة هي قضية المعرفة السوية والمنحرفة التي صاغت مراحل التطور الحضاري ومن ظلالها استوعب علوم الطبيعة والكون وصاغ بوعيها مناهج الحياة وأخلاقياتها وقواعد الحكم وسياساته ومبادئه وعلاقاته وعن موسوعة فكرها انبثقت حكمة الفلسفة وجدلية المنطق واتسعت دائرة العلوم الإنسانية والطبيعية والمعارف النظرية  والكشوف  العلمية وغير ذلك من روافد المعرفة الإنسانية فيما وقف الإشكال عارضاً في عدم استيعابها وفق متلازمات الفصل المنظور باستيعاب عوائد الخير للوفاق والتعايش الآمن في الحياة مروراً باحتراز تمكين أسباب الشرمن التوسع والامتداد في الواقع ..

من هنا تأتي أهمية دراسة وتحليل قضايا الخير والشر في الفكر ليس لكونها إشكالية ممتدة في تاريخ الإنسان وحسب وإنما لكون الإشكالية قد بلغت أقصى مدادها في تصدر غلبة الشر واستحكام أدواته بالواقع فيما أصبحت قضية الفصل في محاذيره هي الحد الفاصل بين البقاء والفناء إذا ما تداركنا حتمية المصير قبل حلوله..

وتلك في بديهية الاقتران هي امتداد العارض الزمني لعشوائية الجدل المعرفي وتوظيفه للأحداث والظروف والمقاصد بتداخلاتها المتشابكة في تشكيل الوعي والسلوك بثقافات وأعراف وتقاليد ونواميس متوارثة استحكمت بتطبيع الأجيال بمسلماتها على خط الاستلاب..

ومعطيات الخير والشر في وعي الزمن لها في كل معرفة فلسفة ورؤية وفي كل تجربة شاهد حضور ممتد في مساحة التأثير هي ملتقى استفراغ العقل الانطباعي لعشوائية التواصل المعرفي وتداخلاته المتشابكة في تشكيل نسيج العلاقات والروابط بانحرافاتها غير أن كلٍ منا قل أن  يستوعب تناقضاتها في تمثيل قناعاته شواهد جهل أو قصور في الوعي والفهم أو يرى في انعكاسات نتائجها عليه حكم الضرر بالنفس أو الإخلال بموازين الوفاق مع الغير ..

فبرغم الوفاق البشري على تصفيف مبادئ الخير لقضايا الفكر والأخلاق وانعكاسات تأثيرها على الحياة إلا أننا في الغالب ما نستقي من ثقافة الماضي(أعرافه ونواميسه وعقائده وتقاليده)بروافدها الزمنية ومحاذيرها المضادة لفضائل التعايش وقواعده الأخلاقية شواهد مستنسخة لتجارب الآباء والأجداد نسترسل في التكيف معها دون إعمال العقل في ملابساتها وقل أن تستوقفنا معالمها في معطيات الواقع  أو نستدرك طبيعة الخلل في المفاهيم التي شكلت حاضنتها وأفرزت نتائجه السالبة على كل عصر واقع الانحراف بامتداد مؤثراته أو نستقصي تمييز الضرر في انعكاساتها على حياتنا لنتجاوز بمعرفته إصلاح أنفسنا والارتقاء بواقعنا كضرورة حتمية للتحرر من أخطاء الماضي والعمل على التغيير المتناغم مع مستجدات وظروف الحياة..

ولذلك قل أن نجد بين البشر بمن فيهم المنتفعين من لا يسلم بالقيم والفضائل والأخلاق ركيزة للخير ويرى في الظلم والعدوانية والصراع والقتل والقهر والجشع والاستغلال والاستعباد والفقر والبطالة والمرض والتخلف وامتهان كرامة الإنسان شراً له في كل مسئلة حكم الانحراف المنظور بتجسيد الخلل في الواقع ، غير أن مفارقات التفاعل مع قضاياها لها في كل نفس قناعة هي في قراءته وعي مصالحه وانطباعاته وحدود مسئولياته نحو المجتمع والتعايش في الحياة..

 فالملتزم العقائدي لملة أو فكر يستحيل أن يرى في كراهيته وأحقاده وعدوانيته لمن يخالفه الرأي بمعتقداته حكم الشر المتدرج من تجسيد الضرر بالنفس بامتداد تأثيره على الواقع كما لا يمكن أن يرى في تقاربه مع المخالف والتعاطي معه بروح المحبة والشراكة الإنسانية وجه الخيرفي انتظام كيانه وعلاقاته بل وغالباً ما تجدكلٍ منهم يتفاعل مع الآخر بوعي التزامه للمعتقد وأهدافه طوق توظيف محوري قل أن يرى فيه مبعث الفتنة والشر بتبعاته..

 ولذلك حين  تبلغ  الخصومة حدود المواجهة تجد القوي منهم لا يتورع عن  ترجيح الحق في  قتل خصومه أو قهرهم بكل الوسائل  بما في ذلك تجاوز كل الأخلاقيات الإنسانية بحق  الآخر بل ويرى في تمثلة للشر في مواجهته انتصاراً لعدالة السماء والحق الثابت لمعتقدة ..

وكذلك السياسي والمثقف ورجل الأعمال والحقوقي  وغيرهم تجدكلٍ يتعاطى معها في حدود ارتباطاته ونطاق مصالحه وقل أن تجد فيهم من يدافع عن حقوق ومظالم العامة من الناس دون أن تكون له من وراءها غاية بل وغالباً ما تجد بعضهم يتعللون بالمبادئ والقيم والأخلاق والفضائل غير أنهم ينبرون في ساحات ومنابر التضليل يبررون جنوح الظلم والفساد بالمزايا والحسنات وينَّظرون لفلسفة القدوة وحكمته فيما تتماهى تلك المبادئ والقيم في نزعاتهم الذاتية بسطحية المفارقة ودغماوية المنطق الهزلي المتلازم مع تمثيل الاتجاه والمصلحة الارتباطية..   

وعلى شاكلتهم أيضاً الحكام والطامعين في الحكم إذ غالباً ما تجد الكثير منهم خارج السلطة وداخلها يتقمصون ثوب النزاهة والعصمة وينادون بفضائل الخير في تصريف وتثمين قواعد العدالة والمساواة والقيم الإنسانية في أطروحاتهم ومشاريعهم السياسية غير أنهم حين يمتلكون أدوات القوة والسيطرة قل أن يرون في مظالم الشعوب ومطالبهم المشروعة شراً واعتداء على حقوقهم وجوبه احتراز الضمير للعدالة في تمثيل استحقاقهم وحين يكاشفهم المجتمع بفسادهم أو استوفى الظرف شروط عزلهم تجدهم يتعللون بالأسباب والظروف القاهرة غير أنهم قل أن يستفيدوا من التجارب إذا ما حكمت الظروف عودتهم إلى سدة الحكم..

أما العامة من البسطاء فهم غالباً ما يتشكلون بوعي الهم اليومي الذي يعيشون تعقيداته وقل أن يرون  ما يدور حولهم بواقعية الإشكال الممتد في تشكيل علاقاتهم أو يستوحون من تناقضات الواقع سمة الارتباط ولذا فهم يقرأون الأحداث بذهنية المؤثر الزمني والمعرفة السطحية المتلازمة مع تمثيل اتجاهاتهم ..

ولذلك تجدهم رغم المعاناة والشقاء يتعاطون مع الظلم والقهر بسلبية الارتهان والخضوع المتعذر بالتسليم بفرضية الأمر الواقع بل وغالباً ما يكونوا  أول من يستجيب لمناصرة الظالم والدعي ضد أنفسهم إذا ما استشعروا العجز أو الخوف المبرر بتسويق التآمر والخيانه للنظام ليجسدون روح الانقسام والفتنة والصراع مع بعضهم في سياق الارتهان  ..

والقضية في ملابسات الفكر ليست قضية الواقع بمؤثراته الارتباطية وإنما هي قضية متشابكة لها في  تداخل الوعي  أبعاد التشكل المزدوج في تداخل الانتظام بدواعي الانحراف في طبيعة النفس البشرية طوق  المعرفة الانطباعية المسترسلة في توظيف الفكر المتناقض منذ بداية التاريخ وفي ذلك ما يستوجب البحث عن جذور الخير والشر وإشكالياته المسترسلة في الوعي حضوراً متصلاً في تشكيل الواقع بحيثياته وسماته خلال المراحل الزمنية نستهلها أولاً بالمفاهيم والدلالات ..

وتلك هي قضية الإنسان والحياة في معترك الخير والشر وتصدرهما لمجمل قضايا الفكركمدخلٍ وصفي لمعضلة الوعي البشري في استيعاب  التضاد الكوني وقراءاته العالقة بين متاهة العقل والمقدس في منازعات احتواء (الحقيقة) منذ بداية التاريخ حتى عصرنا الحديث..

 من هنا كان سبيلنا لاستكشاف ما وراء الحقيقة مبنياً على محاولة استيعاب وفهم جذور التناقض في الفكر بداية بقضايا الخير والشر كمعادلة رأسية تحيط جوانبها بأوجه الخلل في التركيبة المعرفية والفيزيائية لخصائص الفكر في بناء وتشكيل طبيعة الإنسان وتحليل مقاصدها المتشابكة في توثيق الصراع لغلبة وامتداد سيطرة الشر والعمل على تفكيك ومعالجة مواطن انحرافاته بهدف الوصول للتمثيل المتوازن لانضباط العلاقات مع طبيعة الوجود والحياة ..

ففي ثنائية الخير والشر تكمن علة الوجود وأسراره ومعادلاته وقوانينه وفي دلالتيهما ضدية الإله والشيطان  والحق والباطل والعلم والجهل والحرب والسلام والأمان والخوف ومجمل القرائن المتضادة بما في ذلك معنى الجنة والجحيم في فلسفة الدين..

ومن وعي تشابكها تشكلت مفاهيم الوجود والحياة بدأً من بديهيات المعرفة بالمطالب الضرورية للبقاء مروراً بالتجارب العقائدية بشتى مذاهبها واتجاهاتها الفكرية وحتى مظاهر تطور العلوم الإنسانية وظلل غموضهما قضية القضايا المتعثرة في إشكالية المعرفة وجدلية العقل المتشابك وقراءاته الخلافية حول استكشاف ما وراء الوجود وفهم معطياته..

 ووفقاً لذلك ساد الاعتقاد لدى معظم الاتجاهات الدينية أن ثمة حالات أو مظاهر مطلقة تستمد حضورها من قوة ما ورائية هي الكيان الأعلى المعني بتأطير علاقات الحياة محورا أخلاقيا مطلقا يُعرف ما هو موجود على  أنهما (خير أو "شر) غير أن هذا التأطير لا ينفي عن الكيان الأعلى سمة التناقض في تمثل الخير والشر في كثير من الملابسات..

 المفاهيم والدلالات

 تعارف الناس على تعريف المفاهيم بسطحية المعاني المجردة دون النظر إلى ما بطن فيها من قرائن ودلالات وتلك هي إشكالية الوعي في استيعاب الدلالات  واستخراج ما بطن في كمونها ذلك أن اللفظ هو بمثابة الجسد للروح الباطن فيه مثَّاله في ذلك جوهر الإنسان بصيغته العقلية والنفسية والروحية المجسدة بالشكل الظاهر للذات..

 ومسئلة الخير والشر  رغم ما حظيت به من بحث واهتمام واسع منذ قدم التاريخ إلا أن هذا الاهتمام اقتصر على  تقييد المعنى في الجانب الأخلاقي للدلالتين واحتراز المنفعة والضرر للإنسان دون النظر إلى القيمة من حيث الشمول والإطلاق في اختزال السمات الجوهرية لمجمل تناقضات الفكر بفضائله ونقائضه في ركيزة التأثير المتبادل لدلالات الحياة ..

وباعتبار أن كل فكرة لها دلالتها الخاصة من حيث السمة الجوهرية كالمحبة والعدل والصدق والأمانة والتسامح وغيرها إلا أنها في ركيزة الجدوى  تندرج ضمن مبادئ الخير المطلق  وفضائله وعلى شاكلتها تستقيم الأضداد ضمن عوامل الشر ودلالاته العارضة ..

 مثل ذلك بعض الأخطاء الشائعة في قراءاتنا حول تعريف الخير والشر منها ما ورد في لسان العرب لابن منظور  قوله (الخَيْرُ ضد الشر وجمعه خُيور: قال النمر ابن تولب( ولاقَيْتُ الخُيُورَ وأَخْطَأَتْني خُطوبٌ جَمَّةٌ وعَلَوْتُ قِرْني تقول منه خِرْتَ يا رجل فأَنتَ خائِرٌ وخارَ اللهُ لك: قال الشاعر فما كِنانَةُ في خَيْرٍ بِخَائِرَةٍ ولا كِنانَةُ في شَرٍّ بَِأَشْرارِ وهو خَيْرٌ منك وفلانة الخَيْرَةُ من المرأَتين وهي الخَيْرَةُ والخِيَرَةُ والخُوْرَى والخِيرى وخارَهُ على صاحبه خَيْراً وخِيَرَةً وخَيَّرَهُ فَضَّله ورجل خَيْرٌ وخَيِّرٌ مشدد ومخفف وامرأَة خَيْرَةٌ وخَيِّرَةٌ والجمع أَخْيارٌ وخِيَارٌ وقال تعالى أُولئك لهم الخَيْراتُ جمع خَيْرَةٍ وهي الفاضلة من كل شيء..

وهنالك تعريف ثالث للخير يرتكز على الجدوى: إذ يُعرف الخير بأنه كل شيء أو حالة تعود بالفائدة .والمنفعة  وتعرف الشر بالنقيض فيما يعلل أنصار هذا الرأي المجدي على أنه ما يحقق السعادة  للعدد الأكبر من الناس وفي ذلك يفترض بعض أنصار هذا الرأي في العصر الحيث أنه من الممكن بناء معادلة حسابية تحدد نسبة السعادة التي يحققها كل عمل، وعليه يمكن تحديد مدى الخير الأخلاقي (أو الفائدة) الكامنة فيه  وعلى ذلك فالخير نسبي في حدود تحققه ..

وبرغم أني لست لغوياً متخصصاً إلا أن وجه الخلط  بين معنى الخير والخور بدا واضحاً  في الجمع والتوصيف إذ  المتعارف عليه في دارج اللغة أن لفظ(الخيرات ) هي جمع الخير وليس خيور  بوصفها جمع (خور) وهو صفة للعجز وفي دليل الإسناد ما ينافي المعنى تفصيلاً إذ  المعنى في قولك للرجل خُرت يا فلان فانت خائر) هو وصفه بالضعف والعجز وليس بسعة الخير وفي (خار الله لك)إن جاز فيها معني التسخير بالعطاء فهي في مجاز اللغة كناية عن التسليم  جوازها الاستجابة في معنى (استخار أو اختار الله لك) وتلك لا يجوز  فيها القصر في اجتزاء اللفظ بصيغة (خار) كونها في حق الله تعتمد العلة على الانصياع والخضوع وليس على ثبوت الرضا والقبول..

فأن تقول خار فلان لك أو أمامك فأنت تجيز بذلك استسلامه وتسليمه لك وإن جاز بها تحقق الخير لك فموجباته تنطبق على قهر الآخر..

كما ورد تعريف الشر في معجم لالاند على أنه: (كل ما هو موضوع للاستهجان أو اللوم، ويفضي بالحق للإرادة  في معارضته شرعاً، وتغييره كلما كان ممكناً)

 وفي معجم بولدون ما يشير إلى(إن الشر هو ما يضاد الخير أو حسن الحال، وتصنيف الشرور يتبع تصنيف الخيرات إلى ما هو عقلي أو نفسي وما هو جسماني، وما هو خارجي أو على نحو أكثر تأصيلاً في تقرير :ما هو طبيعي وما هو أخلاقي )..

 من هنا يكون الخير هو القيمة الأسنى لمعنى الغاية من الحياة والتي يلتقي حولها الاجماع البشري على تحقيق المنفعة الفردية والعامة كمعيار متلازم مع تجسيد الدلالة للقاعدة الأخلاقية لانتظام العلاقات والمصالح المشتركة بين الناس وفي مقتضى علته مايؤسس توطين الأمان في النفس البشرية قرينة لاستقرار الحياة وصفة الشر نقيضه ..

الإله والشيطان

تتصدر قضية الإله والشيطان المحور الرئيس في مبادئ الفكر الديني بمختلف اتجاهاته الخلافية ومسالكه الدعوية المتشعبة في القراءات النظرية حول تفسير الدلالتين في الصورة والمعنى ..

ودلالة الإله والشيطان في موسوعة المعارف الإنسانية ارتبطت منذ بداية وجود الإنسان على الأرض بفلسفة الخير والشر واستقراء القوى الكامنة فيها على  بساط المعالجة للإشكال المزمن في معضلة الصراع مع ظروف الحياة القاسية ومطلب التوافق مع قوانين الطبيعة الكونية في معادلة البقاء..

وفيما وقف تشخيص الألوهة عبر التاريخ عارض امتثال للطبيعة الجغرافية في اعتماد مظاهر القوى المسيطرة على محيط التجمع السكاني في كل جزء من خارطة التشكل الطبيعي وقف أيضاً تشخيص فكرة الشيطان من مفارقات الخطر في طبيعة الصراع بين الخير والشر وتشكل وعي الإنسان بها من عوارض الخوف في طبيعة النفس وانقيادها للوهم في تجسيد القوة الروحية الخفية للطبيعة الضدية للإله ونزعتها للسيطرة على الوجود والإنسان ..

ولذلك ارتبطت  نشأة  اللاهوت الديني باختلاف مصادره واتجاهاته العقائدية بجدلية الخير والشر المتجانس  في إسناد فكره لمرجعية الألوهة المفترضة بوجه القياس المتأرجح بين التعاطي مع الظروف والعوامل التي شخصت دلالات الارتباط بالموروث الزمني لتجربة وثقافة المحيط   وبين تصفيف سُبل الخير وقواعده الاستحقاقية لانتظام العلاقات الروحية بين المجتمع في ملتقى تعميد فرضية الخلاص من الشر..

بيد أن هذه الفرضية ظلت مجرد غطاء تفاضلي يتفرد بتوظيفه كل دين في احتواء الحق الإلهي  مشروعية استحقاق اختزلت منهجيته تطبيع الجمهور على جبرية الإدانة والتسليم المفرغ بتضليل الطاعات للاختبار والخيار بين الخير والشر في التبعية لكل دين قاعدة  تلازمت مع إسقاط مرجعيتة في تمثيل فرضية الخلاص من الشر في الحياة باحتواء المصير المجهول في اليوم الآخر ..

وما يعنينا في معرض الفهم أن البشرية عبر مراحل التطور التاريخي تلازم وعيها بسطحية المعرفة كقرينة احتمالية لتفسير الغموض والتناقض فيما استحكمت عشوائية الاستقراء بتعميد التضاد قاعدة كونية بالتلازم مع تباين القراءات النظرية حول رواية الخلق  ..

ففي المراحل الأولى لعقائد ما بين النهرين (السومرية  والبابلية) ساد الاعتقاد بأن الخير هو من صُنع الإلهة العظيمة (مردوخ وانليل) وإن الشر من أفعال الالهة الادنى(نمو وتيامت)حيث كانت السيادة في مرحلة ما قبل التاريخ تعود للمرأة وكانت توصف بالديانة القمرية الانثوية(ديانة النيوليت)غير أنها في مرحلة التطور (المدني والزراعي) تغيرت مع بروز الديانة الشمسية(الاله مردوخ) الذي شكل ظهوره حدثاً ثورياً في منظومة الحكم بتولي الذكور محل الإناث والقضاء على آلهة الديانة القمرية الانثوية كالآلهة (نمو) السومرية وآلهة المياه البابلية(تيامت) وتحولت عبادتهما الى عقيدة سرية نسبت اليها كل الشرور والشياطين والامراض ومن دم اتباعهما خلق الانسان الذي امتزج  بالخير والشر ..

وفي الغنوصية وهي عقيدة ظهرت في العصر الهلنستي يرى معتنقيها إن المادة انبثقت من الله على شكل مراحل، وفي كل مرحلة كان الخير يتقلص والشر يتمدد الى ان انبثقت المادة الحالية التي استفحل الشر فيها وأحاط بكل معطياتها في الحياة..

اما في (الزرادشتية) وهي ديانة فارسية ظهرت قبل المسيحية بستة قرون ففلسفتها تقوم على أن الله كيانا مفارقاً يسمو بوجوده فوق كل الممكنات وقد ظهر الخير والشر نتيجة خيار بدئي تحقق به ظهور روحين أزليين توئمين اختار الأول وهو (أهورمزدا) أن يمثل الخير والنور والحكمة واختار الآخر وهو(أهريمان) أن يمثل الشر والظلام  والرذيلة  والاثنان في صراع دائم  ..

وللمعتقد(المانوي) تصور آخر قد يشكل امتداداً للغنوصية مع اختلاف طفيف من حيث المبدأ إذ يرى أن الوجود قام على حقيقتين أزليتين هما الله والمادة وحقيقة الله روح صرف وحقيقة المادة كثافة مطبقة وظلمة حالكة ولشدة كثافة الظلمة في أسفل طبقاتها تشكلت المادة كما تولد الشيطان عن الظلمة كما تتولد العفونة عن الأجزاء الرطبة فيما تولدت القوى الملائكية عن الله..

أما في اليهودية فمصدر الخير والشر هو الإله(يهوه)فهو يتجسد في الإنسان ويتسم بسماته في الرغبات والأهواء والضعف والقوة  والعصبية العرقية وكما ورد في التوراة على لسان يهوه (أنا الرب وليس آخر مصور النور وخالق الظلمة صانع السلام وخالق الشر .  أنا الرب صانع كل هذا) (أشعيا45: 6_7)

وهو ما لم تسلم به المسيحية وتعزو فكرة الشر إلى الشيطان بوصفه تجسيد سماوي كان ينتمي إلى فصيل الملائكة واستقل بعصيانه في الخروج عن طاعة الرب ومعارضته الضدية المعلنة بتجسيد الشر وتمثيل غوايته في الإنسان وعلى نفس الخط سار نهج الإسلام في تضليل الألوهة المتناقضة في تقييد بعض الأسماء بالمتضادات مثل(الضار والنافع والغفور والمنتقم والمحيي والمميت والرحيم والجبار والحليم والمتكبر والمعطي والمانع) وغيرها من الأسماء..

ووفقاً لتلك التصورات فالخير والشر ظاهرتان متلازمتان في الوجود هما علة ثباته وانتظامه وحد الاستثناء هو انتصار الأقوى في حلبة الصراع المقروء بتماهي الوجود والحياة في امتراء الخوف من المجهول بيدقاً للحساب والعقاب الموجه بمشيئة الإله في تقييد التبعية للوسائط المتناقضة وتعميد مشروعيتها للوصاية  بالشفاعة المفرغة  في اليوم الآخر توثيقاً لاعتماد كل وسيط رسول أمره ومنهجه في توجيه فتنة قدرتها حكمته دليلاً لانتظام الحياة ..

 وبرغم أن الثابت في مسّوغات الاتجاهات الدينية المختلفة يسير على هدي اختزال الدلالتين في السياق المعرفي للخير والشر وتمُثل الجدوى في اجتباء الإله مرجعية سوية لانتهاج السبل المستقيمة للمسلك الصحيح في  الحياة  المتعامد مع الثواب والجزاء لما بعد الحياة.. ومن ثم اعتماد الشيطان سبيل الإغواء في توجيه النفس البشرية على غير القاعدة السوية والانقياد لطبيعة الشر في اجتباء وتمثل السلوك الخاطئ..

 إلا أن وعي الفكر الديني ظل خلف دائرة الفهم الصحيح للإله والشيطان كعلتين متضادتين يستحيل أن تلتقيان على خط متواز ٍ في معادلة التكوين المتوازن ..

فالألوهة مع اختلاف اتجاهات التقييد العقائدي لصورها في مظاهر الوجود المختلفة وإن شخصت طبيعته في المراحل الأولى حكم العلة والغاية التي استوحاها الإنسان من تأثيرها على وجوده وتمُثل الانقياد لطاعتها في مسلك التعبد والتقرب إليه لاسترقا الرحمة أو العون في تحقيق مطالبه ورغباته,  فهي أيضاً في الديانات المتسلسلة في تاريخ الإنسان ظلت تسير على نفس الطابع الذهني لتمحور التناقض في الطبيعة البشرية مع اختلاف بسيط درج في سياق التجريد الغيبي وظهور فكرة الخلود فيما استقامت معالمه مع ظهور الديانات التوحيدية في سياق توظيف مشيئة الإله في تمثل الطاعة والعبادة في الدنيا وتعميد وجوبها بطوق النجاة الفاصل في استحقاق  العالم الآخر باحتراز الثواب في الجنة للمؤمن والجزاء في الجحيم لمن خرج عن طاعته ومنهجه في رسالة كل دين ..

أما الشيطان فقد درج تشخيصه بالروح الشريرة القادر على التجسد في أي صورة شاء أو الولوج والانتقال من نفس إلى أخرى لإسدال الستار عن إدراكها وتجسيد مفاتنه في طبيعة النفس الأمارة باجتباء السبل الرخيصة للحياة..

ومما لاشك فيه أن سند الاستقراء للمعنيين في ضوء ملابسات الغموض المتداخل في طبيعة تشخيص الاحتواء الديني المتضارب لم يتجاوز الخلط بين الدلالتين في السياق المعرفي لقاعدة القيم الضدية كسمة متجانسة للتفكير تستوجب الفصل بين منازعات التفرد والاحتواء لمعادلة الوجود الواحد والإله الواحد في مرجعية واستحقاق الإنسانية كافة دون تخصيص..

وحكم الانقسام حول مفارقات التشخيص الظاهر للإله والشيطان أو نفي وجودهما قد لا يتعارض أياً منها إطلاقاً مع اختزال الدلالتين لمعاني الخير والشر في ثوابت الوجود الواحد والحياة المشتركة ..

أما في جواز اختزال أو احتواء الدلالتين على بساط التفرد بالخصوصية الدينية أو العرقية أو غيرها فحكم الاستثناء فيه هو تجزئة الإله الواحد أو الدليل الواحد في منهج الحياة واجتباء الشر قاعدة خلافية بديلة يسوسها الشيطان بغوايته وفي ثبوتها تعميد لاهوته ..

الأصل والفرع

لقضية الأصل والفرع حيثياتهما الفاصلة بين طبيعتي الخير والشر والإله والشيطان من حيث تجسيد الأصل لعلة الخلق والتكوين وتمثله للثبات الكوني كمنظومة متوازنة لتوافقات البناء في الاتجاه الموازي لاقتران الشيطان بالهدم في الاتجاه المتلازم مع انحراف الإنسان بعلاقاته الارتباطية بالمحيط الذي يحتويه ..

وفي ذلك لاشك أن تحقق الوجود بالخلق والظهور المحسوس كان له أولوية هي أصل البناء والتكوين وعلة التناسب الوفاقي في تدرج مراحل التطور والامتداد وتلك في معادلة القوانين الماورائية هي جوهر النظام المقروء بشواهد الانضباط  ثبوت الجدوى في تمثيل علاقاته لتناسبات الوفاق وجاز توصيفها ب(قيم الخير) كقاعدة كونية ثابتة لاتقبل التصادم فيما بينها كما أن تحقق ظهور الضدية في طبيعة (الشر) برز في سياق قابلية الطبيعة المادية للفساد والتحلل والتي تجسدها الإنسان كمركب مزدوج للطبيعة المتداخلة بالمؤثر في صياغته لانحراف التناسب في تشكيل الوعي بالشذوذعن تلك القاعدة نحو تمثيل الذاتية المتدرجة من فصام النفس إلى تشكيل الهوية الجمعية المتعارضة بتعدد الاتجاهات والمسالك والأهداف ..  

وهو الأمر الذي يتسق مع استقامة قوانين البناء على ثوابت الخير ويلتقي مع طبيعة المادة الكونية ومنها الإنسان بوصفه حالة الامتداد لهذه الطبيعة والمؤثر الفاعل في تغيير قوانين الانتظام نحو تمثيل قابليتها للفساد ..             

ولذلك فنحن نرى  الوجود بوعي نظامه قرينة انتظام قوانينه وتلك وإن تشكلت في سياق ما يعلله البعض بالتصادم فجواز الاقتران بالتقدير هو تفاعل الممكنات في صياغة معادلات التناسب لانتظام النسق الواحد في الأبعاد قاعدة للنشاط الفيزيائي لكل منظومة ومثالها في الإنسان المكون الطبيعي المنظوم على توافق المكونات في تجسيده ووظائف كل منها كقرينة ثابتة للانتظام فيما يتعذر الانتظام بواقع الانحراف عن قوانين الثبات  في طبيعته تجرداً بوعي التراكم في استجماع العقل الباطن لمخزون التطبع المعرفي المنحرف  بتجسيد نشاطه سلوكاً مضطرباً في الاتجاه المتلازم مع تشابك الفكر في توجيه علاقاته وفاعليته لحضوره  في تجربة الحياة ..

وما نعنيه في تضليل الأصل  هو أن للوجود قاعدة كونية ثابتة محورها قيم الخير في طبيعة تكوين المبدأ الذي تشكلت بوعي معادلاتها منظومة البناء ولو جاز فيها تمثل الضدية والتصادم في تكوينها لما تحقق انضباط موازين البناء..

ولأن قضية الشر ارتبطت بواقع الإنسان فقد كان الفرع هو المتغير الذاتي عن الأصل إلى النقيض والذي التقت حول تفسيره الديانات التوحيدية في تحول الأب الأول للملائكة بوصفه حارس العلم قرين (العقل) إلى الضدية في الجهل كنتاج للغيرة والتطلع الذاتي وتعلله بالتفاضل على الإنسان والمرموز إليه بالشجرة المحرمة وتقييدها بالنفس وشهواتها الدنيوية في تحول (آدم) وفيه كل البشر للعصيان ..

من هنا كانت قضية الأصل والفرع في معادلة الوجود هي قضية الثابت والمتغير في متلازمات كلٍ منها بخصائص التكوين المنظور بتقييد الثابت للمبدأ الكوني الشامل لقوانين(وحدة الوجود)في المجال واستيعاب المادة للتشكل الوفاقي للتناسب في سياق التجسيد المتنوع للظواهر الكونية وتوافقاتها القابلة للانتظام في إطار  تمثيل نشاطها الخلفي للامتداد المتسلسل لوحدة النظام ومن ثم قابليتها للفساد في مضمار انحراف موازين التناسب في التشكل المتداخل بتوثيق طبيعته لمنسوب الخلل..

وبناءً على ذلك تنتظم موضوعية الأصل والفرع في طبيعة الارتباط بالخير والشر واقترانها بعوامل النشأة والتكوين بمرجعيتين:

الأولى: وهي القوانين الماورائية  في معنى ثوابت البناء ممثلة بصياغة المجال للنطاق الفيزيائي (الطاقة الخلفية) لتسلسل تخلق مظاهر الوجود عن نشاطه الحركي كقاعدة كونية منظومة على تمثيل التناسب الوفاقي لموازين  الثبات.

الثانية: الطبيعة المادية للظواهر المنفردة في التخلق كمتغير ذاتي قابل للفساد والتفكك والاضطراب  في سياق تحلل التناسب الوفاقي لقوانين البناء  إلى التركيبة المتناقضة وتماهي تحولاتها لانبعاث الشرفي الهدم والفناء ..

وهاتين المرجعيتين يختزلهما الإنسان  بطبيعته المزدوجة صيغة مماثلة للوجود بشقيه الروحي والمادي في مكوني العقل والنفس من حيث ارتباط العقل بالمحيط الخارجي ركيزة للاتصال والتمييز المنظور باستيعاب الدماغ لفيزياء الفكر قرينة موازية للحركة الزمنية لأنطولوجيا الوجود وقوانينه وارتباط النفس بالمقاصد التراكمية المستحكمة في تشكيل طبيعة ورغبات وأهواء ودوافع الذات وقابليتها للفساد والتحلل والتفكك والاضطراب.والصراع الباطن.

ولهذين الاعتبارين صفتي اقتران قاعدة العقل الجمعي بأحكام الألوهة من حيث تمثلها للأصل في تضمين القيم والأخلاق قواعد وموازين ضابطة لاستيعاب توافقات انتظام علاقات وروابط الحياة واقتران النفس بانحراف الشيطان وتمرده المعزز بالغرور والجهل في تحوله والارتهان للغريزة الحيوانية في طبيعته..

ولذلك كانت علاقة الإنسان بالإله هي محور انتظام صلته بالغاية فيما تمثلت علاقته بالوجود مفترق الوسيلة بين استيعاب القيم دليلٌ ثابت لانتظام كينونته المتصلة بتمثيل وحدته مع الوجود وتلازماته القصدية في التفاعل والبناء الموازي لخلود الروح في السعادة الأبدية أو مع الفرع في الارتهان (للأنا) وتعللها بالهامش الدنيوي للمقاصد والرغبات والدوافع والأهواء المقترنة بتمثيل متغيرات الطبيعة النفسية وانحرافاتها عن القاعدة ..

وهو الشاهد الذي تحتكم قراءاته لاستيعاب مفاصل العلاقة الارتباطية بالوجود من حيث التشكل المزدوج (الروحي والمادي)بخصائص المعقول والمحسوس الكوني وعياً ذهنيا وحسياً يستقيم على تمثيل اللاوعي الباطن لتراكماته الحسية طبيعة حياة ..

وما نستخلصه في تقريب أبعاد الصورة أن الغاية من وجودنا المجسد بالماهية الطبيعية ارتبط بتمثيل تفاعلاتنا لطبيعتي الخير والشر في سياق مطلب التحقق بالسعادة الروحية كهدف أساس للحياة يتماهى في توثيق العقل لمقاصد الخير في انتظام علاقة الإنسان بالمحيط قاعدة للشراكة المنضبطة على وحدة النسيج  في الغاية ملتقى الوفاق والأمان وتوثيق النفس للشر في استيعاب الرغبات والدوافع والأهواء  للجشع وحب الاستحواذ والتفرد مفترقاً للصراع والتآكل والشقاء..

ولذلك ارتبط ظهور الشر في حياتنا بعشوائية المعرفة المتلازمة عبرمراحل التاريخ مع توطين الصراع قاعدة كونية وتماهي قيم الحق المعنية بتمثيل الضابط الجمعي للوفاق في تجزئة الإله الواحدفي الشخوص والنصوص العقائدية وخصخصة النظام الافتراضي لوحدة العلاقات بين  تمزيق الهوية الإنسانية وصراع المصالح..

ثانوية التصادم

 نحن نرى الوجود بوعي مداركنا الحسية ظواهر متجانسة ومختلفة بدلالاتها المجردة والمقروءة بسطحية التنوع والاختلاف والتي غالباً ما نستخلص في مشهديتها صور التناقض والتصادم قياساً بانطباعاتنا المدونة في مخزون العقل عن معطيات الصراع بصوره وأشكاله وقل أن نراها بعين قوانينها علة التناسب في التشكل والبناء الصحيح ..

 ولذلك انطبعت فكرة ثنوية التصادم في ذهنية العقل البشري كسمة تجريدية لصراع الخير والشر في طبيعة تكوين مظاهر الخلق ولوجاً في توثيق كل قضية من قضايا الوجود والحياة حيث ساد عند معظم الاتجاهات العقائدية والفلسفية والعلمية إن قانون الصراع هو الشيء الذي يتكرر باستمرار في كل مظاهر الكون دون استثناء..

ومنهم من يستدل على ذلك من منظور أن كل شيء على وجه الأرض يحتكم لطبيعة التصادم ولكن بمسميات وكيفيات مختلفة مستشهدين على ذلك أن في عالم الحيوان مثلاً لا يستطيع الذكر أن يُسيطر على القطيع من جنسه دون أن يصطدم مع منافسيه ليثبت أحقيته في القياد..

كما يرون أنه حيث  يُوجد التصادم لابد أن توجد معه الدفاعات  ومنها على سبيل المثال الغلاف الجوي للأرض والذي يشكل أحدى هذه الدفاعات بوصفها جزء من قانون التصادم الكوني وبالدفاعات  تستقيم الموازين ويتجسد النظام لأن الأمر لو ترك للتصادم فقط لما وجد الكون أساساً ..

وفي عالم الإنسان يزعمون إن التصادم هو ببساطة ما يصنع الحياة  وهو ثابت في كل أمر يخص البشر متسلسل من صراع الأفكار في العقل الباطن إلى صراع  الفرد مع أقرانه إلى تصادم الشعوب  مع بعضها دون النظر إلى أن الأنسان هو علتها المقيدة بحصيلة البناء ..

كما يساند هذا الرأي قراءات بعض علماء الفيزياء واستنتاجاتهم الاحتمالية على أن الكون ظل عارضاً في المراحل الزمنية لتصادمات عنيفة شواهدها نجوم ونيازك وشهب تتصادم مع بعضها، وكواكب ظلت تتجاذب مع أقمارها وتتنافر وشموس تبتلع ما يقترب منها وتصادمات لا حصر لها في طبيعة الوجود ومساراته..

وفي تحليلنا لتلك الفرضيات نجد أن معطياتها تشكلت من استخلاص طبيعة تكوين الإنسان المعرفي بوصفه النتاج الزمني المتعثر بتجسيد التصادم وانعكاساته على حياته إذ يستشهد دعاته ومؤيديه بفرضية عائمة مسوغها أن الإنسان يمثل بطبيعته أحد أشكال التناقض الكوني وتجريداته المتشابكة في الصراع الباطن وفي ذلك ما يعني أنه مخلوق على تلك الطبيعة والتي تعلل بدورها انعكاس القانون الطبيعي للحياة في تكوينه وهي لاشك فرضية قاصرة تستبعد العارض الزمني للتنشئة والتشكل العشوائي المتلازم مع الاقتران بطبيعة الواقع ..

فيما يغيب عن ذهنية الشاهد أن الإنسان يولد بطبيعة البراءة والصفاء الروحي صفحة بيضاء تتشكل وفق صياغة التجربة الزمنية لمراحل التشكل النفسي والتي تنعكس بدورها على تشكيل طبيعته بدليل اختلاف أنماط التشكل العقلي والنفسي بعوارضهما المرضية بين الناس وهو الأمر الذي لا يحتاج إلى بيِّنة في اعتبارها وليدة الظروف والمتغيرات ولا يمكن أن تنطبق عليها صفة القاعدة الكونية في تمثيل مفارقاتها لانعدام الثبات..

وهنا حين نختلف مع هذه الاستنتاجات  فنحن نراها من حيث تجسيدها للواقع  دليل انحراف الإنسان  بالمعرفة المستقيمة بجدواها الفاصلة بين البناء والهدم إلى التبرير الموازي لتصفيف قواعد التطبع وليس الثبوت المردود عليه في ما يلي:

أن الأساس في استيعابنا لثانوية الخير والشر ركيزته المعرفية هي فهم منظومة العلاقات والروابط الوفاقية أو المنحرفة بين تصفيف أسس ومقومات الخير لوحدة البناء المنظوم على الثبات المتوازن  أو العكس في اختزال الشر لعوامل التفكك والاضطراب واختلال موازين العلاقات والروابط المتسلسلة مع المحيط..

أن قضية نشأة الكون وتطوره لم يكن له أن يتحقق وفق فرضية التصادم بعشوائيته المظطربة ليخلق نظاماً بهذه الدقة في البناء والثبات المتوازن لفيزياء التفاعل والنشاط ولو جاز فيه تمثيل التصادم لاختلت موازين العناصر الجزئية التي تشكلت بواقع التناسب الوفاقي وصاغت مظاهر الطبيعة الكونية بنجومها وكواكبها ومجموعاتها الشمسية ثم المجرات وظلت في حالة تصادم مستمر يمنع انتظام البناء المقنن على توصيف مراحل التطور لقوانين البناء..

أن الأصل في توثيق التصادم بالقوة الموازية للدفاعات المضادة في تخلق الظواهر الكونية ومنها كوكب الأرض واعتبار الغلاف الجوي منظومة دفاعية منظور بانتظام قوانين البناء في تمثيل علاقات المنظومة الشمسية ببعضها من حيث اقتران الخير بتوافق العناصر في تجسيد الغلاف لقانون الانضباط المحوري في التفاعل المشترك مع أقرانه في المجموعة ولذلك قد يقترن الشر باختلال مكوناته التناسبية للعناصر العارضة باستحداث المتغيرات في طبيعة العلاقة وانعكاساتها على الكوكب..

أن الاستشهاد بالطبيعة الحيوانية في الهامش الافتراضي لمحاولة فرض الذكر سيطرته على القطيع بالصدام مع أقرانه هو في ترجيح  المعادلة نتاج طبيعي لاستيعاب  النموذج  لقوانين الغاب التي وجد نفسه محكوماً بها ولوجاز تعميده بالثبات لما استكانت قابليته لترويض الإنسان في التعاطي بروح الامتثال والتفاعل الموازي لإشباع حاجته..

أن الإنسان يولدخيِّرا بطبيعة تكوينه المنظوم على دقة البناء المحكوم بقوانين التخلق الوفاقي المتصل بتمثيل الوظائف العضوية لكيمياء النشاط الموازي لانتظام النمو مع توافقات متطلبات الجسد الغريزية والتي تشكل بدورها محور علاقته بالوجود وبذلك يعود ترجيح المعادلة فيما يجيزه العرض السابق لاختزال النفس لطبيعة التصادمات إلى مفارقات التكوين المعرفي في جدوى الاستيعاب الذاتي للتجربة الارتباطية والتفاعل بمعطيات التطبع النفسي بمتلازماته الظرفية للانضباط أو الاضطراب الباطن..

أن علاقة الإنسان بالوجود من حيث تمثله للصدام أو الوفاق مع أقرانه أو المحيط  بما في ذلك صدام المجتمعات هي أيضاً امتداد للتكوين الفردي والجمعي في التشكل الاجتماعي والاقتصادي والعقائدي والثقافي والأخلاقي بمعطيات الواقع ومحاذيره الظرفية ..

أن توثيق التصادم بين الخير والشر فيه ما يؤصل الضدية بالتكافؤ المعتمدخارج نطاق القانون الأزلي للثبات المنضبط وتوافقاته المنافية لاعتبار المبدأ دليلاً للبناء المتلازم مع إطلاق حرية الإنسان قاعدة للاختبار  المفترض باختيار طريقه في الحياة ..

 نسيبة الخير والشر

وعلى نفس السياق تبرز أمامنا بعض القراءات النظرية التي رسخت في الوعي البشري قاعدة معرفية خلافية متشاكلة صاغت انطباعاتها إشكالية المعرفة بقضايا الخير والشر في تجارب الفكر الديني والسياسي والفلسفي والعلمي والمعرفي بكافة ميادينه وتصفيفها لطبيعة الخلاف والاختلاف بالحقيقة النسبية والتي وقفت على جادة التنظير مرتكزاً آخر لتبرير الخلل في تركيبة الواقع ..

وترتكز القراءة الأولى على قولبة الظواهر الواقعية في تجارب الحياة بفرضية التناسب بين الخير والشر لاعتبارات أهمها أن الإنسان لا يولد شريراً أو خيراً بطبعه وإنما هي نتاج ظرفي تفرضه الضغوط كأن تدفعه الحاجة للسرقة أو العدوانية والقتل كردود أفعال تلقائية وغيرها وعلى رسلها يتماثل تناسب الخير مع استخدام الشر وسيلة لتحقيق الهدف على هامش توظيف الصراع في حرية الاعتقاد والديمقراطية والفساد ومحاربة الإرهاب الديني بالإرهاب الدولي وتوصيفه بالخير المجاز باستحقاقه أو الكذب والتضليل وبث الفتن والكراهية والأحقاد وشهادة الزور في فلسفة الدين كمبرر لمواجهة خصوم الملة والعقيدة أو العدوانية المجازة بالانتصار للحق وغيرها من الشواهد العارضة في طبيعة الواقع ..

وتلك القضية إن جاز بها تقرير الواقع فحكم التناسب في قولبتها لا يجيز استقامة الخيرعلى استخدام وسائل الشر مهما كانت لزومياته ولها حكم التدرج في معالجة الأسباب لاعتبارات جوهرية منها أن مواجهة الشر بالشر غالباً ما يؤدي إلى اتساع دائرة الشر وليس تقويضه كما أن طبيعة الصراع  أو القهر والظلم والفساد وغيرها ليست سوى نتاج لعدم انتظام الروابط في توحيد العلاقات المتسلسلة بين التركيبة الاجتماعية ومن ثم المجتمع والدولة في الاتجاه الموازي للعلاقات الدولية المختلة..

ذلك أن مفارقات الواقع في اتساع دائرة الشر سواء كانت أخلاقية فردية  أو في أطُرٍ منظومة هي في الأصل تحتكم لموازين البناء في تركيبة الفرد والمجتمع وعلاقتهما بالدولة كمرجعيتين متلازمتين بين تمثيل القاعدة الأخلاقية للتعايش والضابط الاعتباري لانتظام العلاقات وبجدوى كلٍ منها يستقيم الانتظام أو الانحراف في ترجيح سلطة القوي على الضعيف وعدم الالتزام في محاسبة المنحرف وتقويمه بموازاة سلبية المجتمع وخنوعه على هامش التفكك والاستلاب..

أما القراءة الثانية وهي امتداد للأولى فتحتمل تجريد الحقيقة بفرضية التناقض في النسبية المعرفية قياساً بالتصور الذهني لانطباعات الناس واتجاهاتهم المتباينة في تشكيل طبيعة الواقع  والتي  تبلورت في سياق تفسير أن ما يؤمن به كل فرد له حكم الثابت في تشخيص فهمه وقناعاته للحقيقة فيما تستند موضوعية الافتراض على معيار (أن ليس ثمة خيراً مطلق ولا شراً مطلق وإنما لكل منها حالة تناسبية هي مضمار حقيقتها)..

وتلك الرؤية لها في جدلية التاريخ شاهد امتداد الجذور التي عللها الإنسان منذ القِدم بفرضية القاعدة النظرية للمعرفة واحتمل فيها تجريد الخطأ والصواب والخير والشر في ثبوت القناعة فيما ارتكزت القناعة في العقيدة على التسليم المعزز بغرس المفاهيم وتطبيعها في النفس البشرية حكم الإيمان وجاز بها استلاب الوعي وتوجيهه في الاتجاه الموازي للأهداف ..

وفي الفلسفة المادية ما يؤيد هذه القاعدة  إذ تبرز فرضية سادت بين أوساط المثقفين ويروج لها بعض الأدعياء في سياق تغييب الحقيقة حيث يرى دعاتها أن فرضية الخير والشر مسألة نسبية..  فما قد يراه البعض  شراً قد يراه البعض الآخر خيراً ومثل ذلك قد يرى البعض صورة الجمال في القبح وآخرون يرون في القبح صورة الجمال وليس ثمة حقيقة كاملة يلتقي حولها الإجماع..

 وهنا لا شك أن في هذه الرؤية ما يعتمد تجريد القاعدة المعرفية للحقيقة برؤية الإنسان واختلاف وجهات النظر حولها وعلى ذلك فحكم الخير والشر في الواقع مقدر بفرضية الاحتمال النظري لكل رؤية فيما لا يرى دعاتها من الوجه الآخر أن الإنسان ليس أصل الحقائق وإنما هو وعي تداخلها كما أن لكلٍ حقيقة صيغتها المجردة بمقوماتها وفي تجريد صيغتها بالنسبية ما ينفي عنها صفة الضدية في التحقق والثبوت بتفرد كل قرينة بسماتها ووظائفها الخاصة.. 

وفصل المسألة في  ذلك أنه لو لم يكن هنالك خير مطلق وشر مطلق  لما تحقق وجود التناقض والتضاد وكذلك في موضوعية التداخل  فيما قد يرونه حقائق نسبية.. إذ العلة في مجريات التناسب يحتكم بطبيعته للتحلل التدريجي عن مظاهر الوفاق والتكامل نحو التدرج  المتداخل للتناسب المتأرجح ومن ثم التحول المضاد ..

والقضية في ملابسات التصور النظري وإن برزت كنتاج للغموض وقصور العقل في  استيعاب الحقائق فهي في برجماتية المغالطة لا مسوغ لها سوى احتمال واحد هو أن طبيعة الارتهان للواقع أجازت تبرير الخطأ بوجه احتمال الصواب قرينة صحيحة وتجريد الصواب بوجه احتمال التقدير الافتراضي للخطأً قاعدة تقريبية كمعادلة موازية لامتداد التجارب ..

وتلك هي نظرية الاحتمال التي رسمت متاهة التعدد الديني والسياسي والمعرفي الخلافي  قراءات نسبية متشابكة جاز بها تقرير مسألة الحق في الاعتقاد دون النظر إلى ما تفرزه معطياته من نتائج توجت طغيان الشر وسيطرته على الواقع ..

وبرغم التقارب الشحيح في القراءات النظرية للمفاهيم والدلالات إلا أنها بمجمل تفسيراتها تختزل المعنى في السياق الوظيفي للقيمة الأخلاقية دون قراءة الأبعاد والجذور بامتداد تفرعاتها وهو ما لا يستقيم في رأينا حكماً على  مفارقات التشكل وتجسيد انطباعات الشخوص..

ذلك أن جذور الخير والشر وإن ارتبطت بعوامل التطبع البشري بالمؤثر الزمني كمصدر رئيس للتجذر إلا انها كقضية مفصلية هي أم القضايا المتناسلة في إشكالية الإنسان والوجود إذ تحيط ملابساتها بمجمل تفاصيل قضايا الحياة من مظاهر مادية ومعارف وقوانين وأخلاق ومعاملات وقواعد تنتظم في معادلاتها قاعدة للعلاقات الإنسانية بروابطها المختلفة في الاتجاه الموازي لتقييد انعكاساتها لشواهد الانتظام والانحراف في الفكر والسلوك وتلك بمسوغات أحكامها تسترعي قراءة المعنى من دلالاته في كل قيمة وصولاً للقيمة الأعلى في سلم التدرج البنيوي للفكر ..

فخير الوجود مجازٌ بعطائه وعطائه محكوم بتوافق الإنسان مع طبيعته وقوانينه وتوافق الإنسان  مشروط بتعاطيه السوي في سلوكه وانتظام علاقاته ومظهر الشر في حلول الكوارث والأخطار عن الطبيعة الكونية هو نتاج لانحراف السلوك عن ثوابت الانتظام المعلومة باستيعاب شواهد الوفاق..

وخير الإنسانية في عطائها وتلاحمها وتكاملها وتلك قيداً على انتظام علاقاتها وإيمانها المشترك بثوابت (العدل والحق والمساواة والتسامح والتقارب والتضامن والتكامل والوحدة والسلام والأمان) وانتظامها في تشريع الضوابط القانونية المنظمة لها وتلك بدورها تحتكم لمسوغات الفكر المقنن لها في توصيف مسائلها ، ومن هنا كانت علة الشر فيها حكماً على متغيرات التحلل المقروءة بتفكك  وانحراف العلاقات والروابط عن ثوابت القيم..

والخير في الأخلاق سموها في توطين الروابط الإنسانية بين البشر وانعكاساتها على ترسيخ وحدة العلاقات الروحية في المجتمعات ولها صفة القاعدة الشرطية لتعميد جسور الوفاق بين الشعوب والضوابط الاعتبارية للتخلق بالقيم والمبادئ والفضائل الرافدة للارتقاء بالحياة (كالمحبة والتسامح والإيثار والالتزام والكرم والشجاعة والصدق والأمانة والإيثار والنزاهة والحلم والتواضع والصبر والترفع عن الصغائر) وغيرها فيما تشكل أضدادها مداخل الشر في طبيعة التخلق (بالكراهية والأحقاد والجشع والأنانية والكذب والخيانة والقبح والتعالي) وبقية الأضداد..

 والخير في الفكر مشروط بانتظام قاعدته المعرفية على موازين القيم والأخلاق وتلك مقومها تمثل  الفكر للمعرفة الوفاقية والعلمية المثبتة في معالجة القضايا وتحريرها من قيود العصبية والجهل والتحُّيز والتفاضل والتفرد والاحتواء كحواجز مانعة للفهم المشترك ..

من هنا كان الخير هو الهدف الأسمى لانتظام قاعدة الشراكة في الحياة والقيمة الجامعة للقوانين والشرائع والأخلاق والفضائل وفي تجسيده تستقيم وحدة العلاقات على توطين الغاية وهي السعادة الروحية في الحياة كمطلب دنيوي يحتكم للتوافق في البنيان..

وفي المقابل يتأصل الشر بطبيعة التفكك ومتلازماته مع المشاريع المتضاربة وأهدافها مفترقاً للجنوح والتصادم موصولاً بتوطين الشقاء والألم كقرينة مضادة هي رأس الإشكال المسترسل في معضلة استقرار الحياة..

ولأن الأساس في انتظام علاقة الإنسان بالوجود كان قيداً على بناء العقل بوصفه وسيلة التمييز وقاعدة الاستيعاب والتواصل إلا أن وعي الإنسان بالحقائق وقف على بساط التشكل النفسي بالمتناقضات  مشاريع منفردة صاغ حضورها تخلق الإنسان بالمنفعة الذاتية المتجردة بالمطلب الضرورة للبقاء في السياق الموازي لقراءاته العشوائية والمحدودة والتي شكلت وجدانه بطبيعتها وجاز بها أن يتمثل الانعكاس في احتواء تداخل الخير بالشر بوعي طبيعتها المقيدة بعلاقاتها المتضادة وهو الأمر الذي عكس نفسه على توطين التناقض عوارض مرضية في كل ذات  استقام الوعي بها حكماً على طبيعة الواقع ..

ومقتضى المعالجة الظرفية لإيقاف الخطر الذي يهدد وجودنا اليوم  يتطلب منا إعمال العقل في العمل على تقويض منابع الشر من جذوره ليس بالمواجهة والصدام وإنما باستيعاب قيم الخير في إصلاح أنفسنا واستعادة اللحمة في توحيد علاقاتنا الإنسانية المتجذرة في سياق التكامل المعرفي والعملي المعني بتجاوز المعوقات وتعميد البنية للموازنة بين الحاجة والوسيلة والقدرة والانتاج الرافد للارتقاء بمقدرات الوجود إلى مصاف الانتظام ..

الصراع والتعايش

  يتصدر الصراع والتعايش ملتقى القضايا المتعثرة بين جدلية الخير والشر وفلسفة التاريخ  قياساً بأعلى مراتب الانحراف البشري إنتاجاً للشر من حيث الشمول والتوظيف القصدي للعوامل والأسباب تستحضر أولوياته منازعات التعارض الديني والسياسي المتجذر في تفكيك الهوية الإنسانية إلى ديانات وعقائد وطوائف ومذاهب وأعراق وأجناس كسمة متلازمة مع تضارب المصالح صاغت معطياتهما تمزيق الخارطة الجغرافية إلى مساحات وفواصل حدودية غير متوازنة تلازمت مع تأصيل القاعدة الاجتماعية للسكان بالهوية القومية المؤطرة بفرضية البسط والقدرة على التمدد والسيطرة للأقوى..

وحين نبحث عن مخلفات الصراع الزمني وأسبابه وعلى وجه الخصوص الصراع الديني والسياسي والاجتماعي المتجذر في تصدير الفرقة والتشظي قد لا نجد سوى غرور الإنسان وجهله لسان حال الشر وفصوله يتربع على عرش لاهوته ويسوس منازعاته بروح الفصام الأخلاقي معارك وحروب شيطانية مسترسلة في تمجيد الهدم والتدمير وإراقة الدم البريء والتي فرضت نتائجها تمحور العلاقات في تقديس العصبية المؤصلة بتطبيع الكراهية والأحقاد ورغبة الانتقام وتمكين سيطرة الجهل والتخلف والاستعباد والاستغلال والفساد والسقوط إلى درك الحياة..

 وحين نغور في عمق التاريخ لاستطلاع قضايا الصراع المتشعب في جذور كل مجتمع كصلة امتداد الجذر بالساق نجد ضلوع الدين يتربع عرش الشر بين تهويم وتسطيح المبادئ الأخلاقية للتعايش وانحسار دوره على تطبيع الطاعات ركيزة استحقاق تبعي يلتقي عند تحويل بيوت الله إلى منابر للفتنة وبث الكراهية والأحقاد واحتراف الخاصة منهم لغسل أدمغة الشباب وتصديرهم للمعارك المقدسة وقتل الأبرياء بمقتضى فتاوى الانتصار للإله العاجز والمجسد بتمثيل مصالحهم الدنيوية..

وتلك هي مصادر الشر بروافده الزمنية التي رسمت خارطة التعايش الإنساني بجهل من أرسو عقدها وادعاءاتها المعرفية سفوراً من التغييب والاغتراب في الحياة فيما تعذرت معالجاتها برسم التشكل المتصاعد من طاغوت النفس الفردية إلى المصلحة الارتباطية فالهوية العرقية والسلالية فالطائفية فالدينية فالقومية والأممية حلقة متسلسلة من الصراع المتآكل والامتهان للدم والحق والكرامة والعدالة الإنسانية والسقوط المتردي بتفكيك اللحمة البشرية وتمزيق أواصر الوفاق الروحي والانتظام في الحياة حتى يومنا هذا..

من هنا تؤسس معضلة الصراع الديني قضية القضايا المتشابكة في شتات الفكر الإنساني وإشكالاته المنحرفة في لاهوت التاريخ واتجاهاته المتناقضة بين تقمص مرجعياته للقيم والأخلاق رداء الفضيلة والعصمة في تعاطيها مع الجمهور وتماهي الانحراف عنها في توظيف فكره وأهدافه لتمثيل دغماء الهوية وتداعياتها المصكوكة بأوهام الجنوح المتعالي بامتراء الحق الإلهي منابرللفتنة والتفاضل في ساحات التبشير الدعوي المتسامي بقدسية الانتصار للإله المغيب والتضحية في سبيله لمواجهة وإبادة الآخر وتمجيد مثالب الصراع المسترسل بتمزيق قيم الشراكة والوفاق وتفكيك القواسم المشتركة للتعايش الآمن في الحياة..

وتلك في معادلة الفكر هي قضية المعرفة الراكدة في عمق التاريخ  بمتاهاته العائمة في سديم المجهول مشاريع استحقاق عقائدي استحكمت أدواته بتصدير الوهم حقيقة بيدقها تطبيع الإيمان بالغيب وسيلة لتغييب قيم التعايش واستحقاقاتها في نجوى الخلاص المتجرد بامتراء السبيل في اليوم الآخر والتسليم بما كُتب نقلاً ورواية على لسان من وصفوا بالرسل والأنبياء  قاعدة  متجانسة ..

وفيما قد يرى البعض أن قضية الصراع الديني قد تجاوزها العالم المتقدم بداية بظهور النظم الاشتراكية ثم العلمانية ولم يعد لها من وجود سوى في العالم المتخلف يغيب عن الذهنية المعاصرة أن الغرب لم يتحرر على الإطلاق من سيطرة الدين كما أن قضايا الصراع في عالمنا الثالث ليست سوى الامتداد الطبيعي للصراع التاريخي بأحقاده وأطماعة كما يتضح في توطين اليهود في قلب الشرق الأوسط وتمكينهم بالتحالف مع المسيحية من تفكيك الأسلاموالسيطرة على أدواته بالأضافة إلى أن صفة الدين لا تنحصر على تسمية الديانات وحدها وإنما تلتقي جسوره عند تكوين النظم السياسية بمتغيراتها وتحولاتها السياسية كقواعد للحكم والتي تختزل بدورها صراع المصالح بكل اتجاهاتها..

وهذه الإشكالات بحيثياتها المتفرعة هي بلا شك مدخل قضيتنا مع انحراف الفكر كمحور ارتكاز  للنفاذ إلى دراسة وتحليل قضاياه المتشعبة في الموروث الزمني للصراع الممتد ومعضلاته التي استحكمت بامتهان العقل وصاغت قيوده بطبيعة الوعي المتشظي قاعدة للفهم الجامد تستحضره النزعات الغوغائية رسالة حياة..

وتلك لها في استشراف البداية التي فرضت توثيق هاتين المسألتين صلة الجذر  الزمني المتلازم مع  انحسار طبيعة الفكر الديني من حيث ظروف نشأته وتكوينه بالإضافة إلى مقوماته على توثيق صحة المعتقد في تجاوز المعرفة بحقيقة اللاهوت الكوني بالتسليم المفرغ  بتوظيف البدائل الوثنية وسيلة أرست جسور امتداد حضوره الزمني شواهد انقسام وتشظي تجذرت مقاصده واتجاهاته على خلاف غيره من القضايا الفكرية التي انبعثت من حاضنة التدرج المعرفي وأسهمت معطياتها في رفد عوامل التغيير والتحول المعني برسم خارطة التطور والتجديد كالفلسفة والعلوم الإنسانية والطبيعية والرياضيات وغيرها من المعارف والعلوم النوعية..

وهذا الاختلاف وإن شكلت منطلقاته منذ بداية التأسيس منفذ البحث عن ما وراء الزمنكان والوجود المادي وقوانينه إلا أن عامل توظيفه المزدوج للسلطتين الروحية والسياسية بالتلازم مع الاتجاه المتشعب لاختلاف وتعدد تكويناته ترافقاً مع انبعاث الهاجس الظرفي لمخاوف التمرد والتأثير الموازي الذين فرضا عامل توظيف القيود والموانع  وبدورهما شكلا مأزق المعرفة في تغييب العقل وتجميده حول الأصول العقائدية بتداعياته الضامنة لتعزيز سيطرته وبقائه..

ولعل السبب في ذلك يعود إلى أن نشأة  وتكوين الدين تشكلت منذ البداية كظاهرة مزدوجة انبثقت عن  شتات الموروث الزمني للمعتقدات لتؤسس عامل التحول في توليفها بالتزاوج مع كيان الدولة المعمدة باحتواء الدين للسلطتين الروحية في ملتقي توثيق الامتداد السائد للطابع العقائدي المؤطر بتجريد الخضوع المطلق لحاكمية وسلطة الآلهة ومن ثم الدنيوية في جدوى تمثيل النظام السياسي للحكم للقواعد والضوابط الاحترازية للانضباط..

وهي القضية التي عكست نفسها على طبيعة التوظيف الشمولي لقضايا الفكر الديني والسياسي في التجارب الزمنية وتعذر توثيق صلته بالمعارف البشرية ومعطيات العقل بوصفه مرجعية الإسناد اللاهوتي المحيط بمجمل العلوم الكونية والإنسانية بفروعها المختلفة..

وتلك بدورها هي التي أجازت لمرجعياته الدينية في العصور القديمة والوسطى ومن ثم عصر النهضة وصولاً إلى عصرنا الحديث توثيق معتقداته حقائق معرفية ثابتة وامتراء التحليل والتحريم والقهر وسيلة لشيطنة الفكر التجديدي بمعارفه وعلومه وصولاً إلى تأويل النصوص بالتنبؤات المسبقة لظهور الكشوف العلمية كمحصلة لتجاوز القصور والنقص والجهل في توثيق معارفه لشواهد الواقع ..

وبرغم أن الدين استطاع  أن يحيط نفسه عبر مراحل التسلسل الزمني بقدسية المكانة الروحية التي مكنته من فرض سيطرته على حياة ومصير الشعوب والأجيال إلا أن تشبث مرجعياته باحتواء الجهل معرفة غيبية سندها توظيف الجهل معرفة لاهوتية كان له انعكاس الأثر على تخلف الواقع وجموده المعزز بطبيعة الارتهان للموروث المتشابك الأمر الذي  نتج عنه ظهور العلمانية في العصر الوسيط كمرحلة لتحرير العقل السياسي من عقد الارتباط الديني والتي أثمر نتاجها تحول العالم من عصور الجهل إلى عصر العلم واستحقاقاته الرافدة للتطور والارتقاء بحياة الشعوب التي انضوت  تحت لوائه..

فهو وإن تشاكل الفصل في صحة معتقداته كمرجعية لاهوتية تحتكم لمحاذير التصديق والإيمان فثابته الأساس في تمثيل مشروعيته هي قضية الإنسان ومنهج الحياة والتي تخضع في السياق العام لقضايا المعرفة ومسائلها الارتباطية بمقاصد الخيروالشرفي مراتب الفكر قواعده وموازينه..

وفيما استطاع عبر مراحل التاريخ أن يحتل مركز الصدارة في  دراسات الفكر الإنساني  إلا أن  مجمل ما حفل به من اهتمام واسع النطاق في نقاشات وأطروحات الفلاسفة والمفكرين والعلماء والباحثين والُكتاب ناهيك عن مسارات التحول والتجديد والنقد والمقارنة والتوثيق التاريخي بمعطياتها واتجاهاتها المتعارضة ظل محكوماً بطبيعة الجمود الارتهان الزمني لقوة التأثير والسيطرة على  الإنسان والواقع..

 يترافق هذا الاعتبار مع كون الدافع في قضيتنا مع الدين ليست قضية خلاف عبثي أو خصومة أو نزاع استحقاق غائي تمتثل تداعياته لعوامل السباق التقليدي وجدلياته المتعثرة في توابيت الهوية المتعارضة وصراعاتها المزمنة بقدر ما تمثل أولوياته في قراءاتنا أهم القضايا المستعصية في تاريخ الفكر الإنساني تجربة ونتاج يلتقي جمهوره عند توظيف الألوهة قاعدة شيطانية لتصريف الجهل معرفة غيبية ويفترق عند دغماء الهوية وأسوارها الفاصلة بتداعياتها الغوغائية لامتداد عجلة الشر في الحياة والتي فرضت حتمية الكشف عنها حاجة البشرية للمعرفة الثابتة بحقيقة الإله الخالق والوجود والحياة والاسترشاد باليقين العلمي كمنفذ للخلاص.. 

كما أن حد الفصل بين  هذه القضايا إن جاز للبشرية أن تستوعب جذور الخلل في تناقضات الفكر البشري من طبيعة المعرفة سنجدها تكمن في  تركيبة الفهم المتباين كمدخل للقياس والمعالجة الكفيلة بتطويق مصادر الشر في الحياة..

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق