نبوءة العقل

نبوءة العقل

هكذا عرفت الله

 عرفت الله منذ طفولتي المبكرة بصفة المعبود الذي ألزم الناس بوجوب طاعته والتعبد له في الصلوات الخمس لنيل رضاه ومغفرته وكنت أمارسها على مضض خوفاً من عقاب والدي وحين يغيب أتنفس الصعداء في الشعور بالحرية والخروج إلى الشارع  لممارسة التسلية باللعب مع الصبية من جيرة الحارة دون رقيب..

ورغم صغر سني إلا أن هاجس القهر والخوف من العقاب كان غالباً ما يبعث في لحظات التعبد كثيراً من التساؤلات الذهنية حول شكل الإله الذي خلقني ويتولى رعايتي بالرزق والعطاء والرحمة كما عرفت من والدي ولماذا جعل وجودي قيداً على عبادته كما يقول في كتابه (وما خلقت الجن والأنس إلا ليعبدون)..

وكنت في كثير من حالات التعبد والتهجد والدعاء الذي يمارسه والدي بعد كل صلاة وأنا ومن يقف معي خلفه نردد بصوت عالٍ (آمين) وكثيراً ما أتلفت حولي انتظر ظهور الرب أمامي كي أطلب منه أن يمنحني ما أريد في مقابل الجهد والعناء الذي أبذله في طاعته في حين  قد لا تتجاوز متطلباتي حدود الأشياء البسيطة التي يحظى بها غيري من الأطفال ومنها حنان الأب واهتمامه بتلبية حاجاتي ..

وبينما تعذرت رؤيتي للرب الخالق دلفت بي خيبة الأمل في تلبية حاجاتي لاستكشاف وجود الله من والدي فسألته يوماً وكنا متجهين إلى المسجد لأداء صلاة الجمعة: هل يكون الله موجود حين نصلي له وندعوه بأن يقضي حاجاتنا ويمنحنا ما نريد؟

فابتسم على غير عادته وأجاب قائلاً: نعم يكون موجود ويسمع الصم الدعاء من عباده المخلصين ويستجيب لهم .. فقلت له: ولماذا لا نراه ولا يستجيب لدعائنا ؟ فتعالت ضحكته مع بعض التهكم قائلاً: وهل تريد من  رب الكون  أن يظهر لك وما ظهر لسيد الأنبياء والمرسلين عليه أفضل الصلاة والتسليم وهو المبعوث برسالته !..

حينها لم أقتنع بجوابه ولم يثنيني حب الاطلاع عن مواصلة طرح الأسئلة عليه خوفاً من غضبه فاستدركت النقاش معه بعد فترة من الزمن وكان حينها في لحظة صفاء وتجلي يتناول القات بعد صلاة العصر على سطح منزلنا الكائن على رأس الوادي في قرية الجنات وبجواره شقيقته الأكبر العمة (عبُده) كما تعودنا أن ندعوها وعرفت مؤخراً بأن اسمها الحقيقي صفية وكانت زوجة للإمام أحمد آخر ملوك اليمن  وهو من أطلق عليها هذا الاسم الذكوري كما كان يفعل مع جميع نساء القصر فسألتهما بعفوية الطفولة البريئة بما معناه: لماذا  نعبد الله ونحن لا نستطيع أن نراه أو نعرف عنه شيء ولم يظهر لأحد حتى رسوله المبعوث برسالته؟ فتعالت ضحكتهما ورد والدي على سؤالي بسخرية الناصح : استغفر الله يا بني ولا تقحم نفسك بأسئلة لا يستوعبها عقلك وانتظر حتى تبلغ سن الرشد وستعرف حينها ما تريد معرفته ..

فكان أن ظهرعلى وجهي بعض التجهم والشعور بالخيبة والانكسار فلم يجدحينها من وسيلة لإقناعي  سوى القول : انا فخور يا ولدي بذكائك في طرح مثل هذه الاسئلة ولكن الدين ينهانا عنها تجنباً للكفر والإلحاد ثم ردد على مسمعي مقولة  كثيراً ما يرددها رجال الدين (من تفكر في الله ألحد ومن تفكر في الوجود وحّد) ونحن يا ولدي كمسلمين عرفنا الله عن طريق الإيمان والالتزام بأركانه وهي كما شرعها ديننا الحنيف (أن تؤمن بالله وملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر والقضاء والقدر خيره وشره من الله تعالى) وليس على المؤمن أن يقحم نفسه فيما أوجبه تعالى علينا واستعصى على الأنبياء كشفه وواجبنا كمسلمين أن نتجنب المحذور تُقيةً وخوفاً من غضب الله ..

ولم يكن أمامي حينها سوى التسليم بالمحذور خوفاً من غضبه وعدم تجاوزه قيد التزام مانع للتفكير استوقفتني قراءاته بعد زمن طويل مع تزاحم الأسئلة والنقاشات الذهنية المتكررة ولوجاً في البحث عن إجابات مقنعة لتفسير تناقضات الدين لعل أهمها: إذا كان الله قد خلق الإنسان على حقيقته عقلاً تميز به عن سائر المخلوقات بالقدرة على التفكير والبحث والاستكشاف فكيف أجاز للدين تقييده عن معرفته بالتسليم القطعي شمولاً بالأركان الستة وكان أدعى به أن يخلقه بفطرة الإيمان بها مقيداً من خاصية التفكير؟..

 ومع بروز  صناعة الإرهاب والصراع الديني والسياسي في الشرق الأوسط والبلقان وما شكلت تبعاتها من أحداث وأزمات عكست نفسها على الواقع تجلت لعبة السياسة بأوضح صورها في  تسييس الدين والتلاعب بالعقول في تسويق أدوات الفتنة للشهادة والموت في سبيل الله باعتباره جهاد مقدس، وكان لها مع تصاعد وتيرة الأحداث  حكم الدافع الموجه لاستيعاب جذور المشكلة من حركة التاريخ والبحث عن حقيقة الدين والإله والأسباب والعوامل التي رسمت فصول المعضلة ..

وكان منفذي لاستجلاء الصورة مبنياً على محاولة دراسة ومقارنة أوجه التقارب والاختلاف العقائدي حول حقيقة الإله الخالق ودلالاته في مسلمات الفكر الديني المتشابك بداية من المعتقدات الوثنية مروراً بالديانات القديمة وانتهاء بالديانات السماوية ومذاهبها المتشاكلة حول فلسفة التوحيد..

وعلى بهو المتاهة خلصت بي الشكوك في تشخيص صور الإله المتناقض إلى أن تصدير الإيمان والتسليم الغيبي بوجوده لم يكن سوى وسيلة للتوظيف المفرغ بمحاولة احتواء كل دين للمشروعية الكونية مطية للحكم واحتراز الغاية في التطويع المغلف بالترهيب والترغيب كقاعدة تقليدية متجانسة للسيطرة على الإنسان..

كان ذلك خلال أوائل الألفية الثالثة بعد عودتي من اللجوء السياسي إلى أرض الكنانة مصر لفترة تتجاوز الثمان سنوات على إثر حرب الانفصال  عام 94م وانضمامي كمعارض شمالي لعدالة المطلب  الجنوبي والالتحاق بفصائله كعضو في حزب رابطة أبناء اليمن والذي تصدرت قيادته تشكيل الجبهة الوطنية للمعارضة (موج) بتمويل سعودي أعقبها صدور العفو بعدالوفاق السعودي اليمني على ترسيم الحدود ..

وبرغم محاولة  استقطاب النظام للعائدين وإغرائهم بالمناصب والدرجات الوظيفية  إلا أن موقفي من فساده لم يتغير حيث ظلت كتاباتي في صحف المعارضة الوطنية ترسم خط المواجهة في كشف سياساته والتي أعقبها توجيه رسائل التهديد بالإضافة إلى استخدام الحرب النفسية في عدم تمكيني من أي نشاط وظيفي بالتلازم مع تجريدي من كافة الحقوق المكتسبة..

من هذه الرسائل والتي تعودت خلال المراحل السابقة للحرب على استقبالها دون مبالاه أو خوف من محاذيرها ما كان يُبعث على شكل رصاصة أو عصفور ميت أو ثعبان يوضع أمام الباب الرئيسي للمنزل أو إرسال شخص للتحذير من عواقب الإساءة لنظام فيما تجلت بديهة المختص هذه المرة في اختيار  طير العقاب والذي يشخص اسم لقبي العائلي بعد تكسير أضلعه ويدية وقصقصة أجنحته ثم رمية في حديقة المنزل حيث كنت غالباً ما أقضي بضع ساعات من الليل في سقاية الزهور والأشجار والتأمل في ملكوت الوجود ومساراته ..

  وفي حين استقبلت الرسالة كسابقاتها بالسخرية والضحك إلا أن شعوري بالألم والحزن على الطير ومعاناته بين الصراخ والتخبط والغيبوبة أيقظ في ذاكرتي معلومة كنت قد قرأتها في المعجم الصوفي عن طير العقاب كمفهوم يرمز إلى (الله) وهو الأمر الذي يفسر اتخاذه شعاراً لمعظم الامبراطوريات والدول عبر مراحل التاريخ  وعن ذلك استشعرت بأن لمعنى الرسالة إذا ما تجاوزنا شخصنتها بالتهديد دلالتين :

الأولى : أن عثوري على الطير وهو يصارع الموت هو إشارة إلى ما وصلت إليه حقيقة وجود الله في انحراف الدين والنظم السياسية من شر وجهل وتوظيف أعمى بلغ أدنى مراتب السقوط بالحياة إلى جادة النهاية..

الثانية :  أن مسئوليتي كمتلقي للرسالة هي في مقتضى توافقات الأسباب صفة عقد الاختيار والتكليف في تقدير المشيئة الإلهية لحتمية البحث عن الحقيقة الغائبة عن الدين ومحاولة إصلاح ما أفسدته يد الإنسان..

 على إثر ذلك وقفت أولى التحديات أمامي عند محاولة العمل على معالجة الطير واستعادته للقدرة على النهوض والتحليق في الفضاء والتي استمرت حوالي الثلاثين يوماً حتى تمكن من الطيران والسفر في الأبعاد وكانت سعادتي حينها أبلغ من أن أجد لها معنى ًللوصف ..

وخلال فترة الاستشفاء كانت التساؤلات تحيط بتفكيري وأنا أنظر لعجز الطير وضعفة أمام سطوة الإنسان وجبروته مقارنة بتفسير الصوفية لرمزيته إلى الله في اقترانه بالقدرة على التحليق في أعلى سماوات الكون وعلى خطى البحث وجدت ابن العربي وهو أحد أئمة التصوف الإسلامي يترجم في مقدمة كتابه الفتوحات المكية لسلسلة الأنبياء بوصفهم حملة العرش وصولاً لتربع الطير على عرش السماوات ..

وبرغم أن الدلالة كان لها بالغ التأثير في تعزيز الثقة بصحة التكليف والإشارة إليه في سياق تنبؤاته عن ظهور هدهد سبأ بنبوءة الهباء والفلك المحيط إلا أني وجدت مضمون القراءة والتوصيف تسيران على خط التسليم بألوهة الإنسان والتي لا يمكن استيعابها خارج نطاق التشابه مع الديانات الوثنية ومعتقداتها في مظاهر الطبيعة وصولاً لتجسيد الإله في صنمية الوثن ومثله جميع المخلوقات وحينها لم أجد بداً من العودة إلى استنطاق الحقيقة من مرتكزات وجود الله في الدين ..

وكانت البداية أشبه بتقدير المشيئة الإلهية للاختبار ولوجاً بما تعارفت عليه الديانات في البحث عن حقيقة الله من خلال المعرفة بالنفس وعنها تشكلت الصورة من واقع استيعاب أن حقيقة الله واحدة ودينه واحد وهو ما جاء به الأنبياء كرسائل متتابعة لإصلاح مأ أفسدته يد التابعية في كل دين وعنها بدأت في الكتابة واختصار المسألة في صفحات لا تتجاوز الخمسة والثلاثين وعرضها على بعض النخب الدينية والمثقفة في المحيط الإسلامي بهدف استطلاع الرأي حول وحدة الدين بيد أن النتيجة باءت بالفشل الذريع..

وعنها وقف تقييمي لانعدام وضوح الصورة  أن مسألة الدعوة لوحدة الدين قضية شائكة يستحيل استيعابها خارج نطاق المشروعية الإلهية وكوني أنطلق من مبدأ التكليف فقد وقفت الضرورة عند توسيع محاور الرسالة إلى كتاب ونشره عبر موقع على النت باسم رسالة المنتظر إلى العالم لم يستمر أكثر من عامين حتى تم قرصنته وإغلاقه وعنه تشكلت الصورة بأن قضية المنتظرية هي قضية ألوهة الدين المتعارض والتي  يراها كل دين حقاً مشروعاً بظهوره من تابعيته..

وفيما شكل الإحباط واقع التخبط في البحث عن المخارج تجسدت فرضية الحل في العودة للنبوءات والأصول الدينية وعنها وقفت حيرتي تتأرجح بين متاهة الغيب والتسليم العائم بتوظيف وجوده الواحد في الإيمان المتعدد حيث شكلت تلك التساؤلات محور تفكيري في الصحو والنوم حتى وجدت نفسي ذات مساء وأنا أتأمل في ملكوت الكون أخاطبه بلسان المتعثر بين الشك واليقين :

هل لحقيقتك من وجود؟ ولإن صح ذلك فأين أنت مما يجري في الأرض ؟

وكيف أصبح وجودك حكماً على تجزئة لاهوتك في التسليم بالتبعية لكل دين؟

فإذا بي أسمع صوت الخاطر يجيبني : نعم يا ابن آدم أنا موجود ..ألا ترى وجودي فيك عين حقيقتي وقد خلقتك على صورتي عقلاً هو دليلك إلى معرفتي ونور بصرك وبصيرتك وصلتك بي  فتأمل حولك تجدني في سماوات الكون مجال حركته ونظامه وفي توحيدك لصفاتي وأفعالي  لسان حالي فيك شاهد بناء الغاية من وجودك ..

 أما ما يحدث في الأرض فكما هو شأن الإنسان  في اختيار طريقة في الحياة فهو النتاج الطبيعي لجهله وغروره المتمثلين في العصيان والانحراف عن العلم بحقيقة وجودي إلى الارتهان لعبودية النفس في ضالة الارتباط بمقاصد التمكين .. 

وفي ضوء ذلك تشكلت  مبادئ  المعرفة بحقيقة وجوده في تجسيده بصورة المجال الكوني كما وردت في توصيف ابن العربي لظهور هدهد الفهم من سبأ بآخر النبأ عن الهباء بالإضافة إلى تشخيص الإشكال في غياب العقل والتي خلصت فيها إلى تصدير كتابين هما الحقيقة والأكذوبة ونظرية العقل ونشرهما عبر مدونة في جوجل تحت مسمى رسالة ابن الإنسان إلى العصر بالإضافة إلى مواقع التواصل الاجتماعي فيما لم تثمر خلال عرضها على مدى أكثر من سبع سنوات سوى تمديد الاحباط لبقاء الحال على ما هو عليه ..

وفي خظم الانتكاسة والتسليم بالواقع برزت مؤشرات تطور الأحداث من أكذوبة القضاء على الإرهاب إلى التحول الأمريكي من البلقان لاحتلال العراق وصناعة داعش كبديل للقاعدة مروراً بتمكين الشيعة تحت قيادة إيران من السيطرة الموجهة لتوسيع نطاق الفتنة والصراع بين شعوب المنطقة والمتزامنة مع انبعاث ماسميَّ بثورات الربيع العربي كمخطط لتمزيق الممزق حينها لم أجد من سبيل لمحاولة تجاوز المحنة سوي توجيه الرسائل إلى الأمم المتحدة ورؤساء الدول وقادة الأديان للتحذير من مغبة الأمر عسى أن يستشعروا بضمير إنسانيتهم طريق الخلاص من الشر الذي صنعته أيديهم فلم أجد سوى الغرور والجهل يحكم طغيانهم بجانحة الضرير..

وفيما شكلت محاذير المواجهة المتصاعدة بين القوى الكبرى وأدواتها المنفذة لمخططات الـتآمر والبيعة المزدوجة  بتأييد أممي مؤشرات الخطر نحو اندلاع حرب عالمية ثالثة سمعت صوت الرب في تجليات الخاطر ينفض عن كاهلي مرارة الأسى والخوف من المصير المجهول وهو يخاطبني (دع الشر يأكل بعضه بعضاً حتى تستقيم الطريق .. وكما وصلتك بمعرفتي وحملت أمانة التبليغ برسالتي فستجد ُسبلها فيك تقودك للدليل) حينها لم أجد أمامي من سبيل سوى الاعتكاف والاستمرار في البحث عن المخارج الصحيحة للكشف عن منافذ الحقيقة الغائبة في أكذوبة الدين  ..

وعلى بيد التثبت باليقين استوقفتني الإشارة إلى معنى (ستجد سبلها فيك)عند محاولة الغور في أعماق  النفس والبحث عن الدليل من مكامنها في طبيعة التشكل منفذاً للاسترشاد والمقارنة بين ما يحكم إرادتي وبين سُبل العجز ومحدودية التمكين كقرينة موازية للمفاهيم التي تحكم أرجوحة الواقع بمفارقات الوعي في التركيبة البشرية المتناقضة..

حينها وجدت النفس مجرد وعاء لتشكل الوعي بالمقاصد والعلاقات الارتباطية بالوجود تجربة لها صفة الإرادة التي تحكم وجهتي في الحياة بتوافقاتها أو تناقضاتها معرفة وحضور نسبي القدرة على التفاعل والتواصل  والتأثير والتأثر المتأرجح بين العجز ومحدودية التمكين..

وعنها تتجسد المفارقة في نطاق تكويني بمحدودية واختلاف طبيعة التشكل كحالة متوائمة أو غير متوائمة مع ثقافة وسلوك المحيط حيث تصبح القدرة محكومة في الاتجاه العام بإشكالية الحواجز والقيود المتشابكة بين أزمة المعرفة والفهم المتناقض في تركيبة  العقل المتشظي ..

وكوني أنطلق من رؤية تتعارض مع طبيعة المفاهيم والمصالح التي تحكم الطبقة المستفيدة والمؤثرة في  تشكيل خارطة الواقع فبديهية التسليم بجدوى الإصلاح والتغيير من عدمه سيظل محكوماً بأراداتها مالم تستند الرؤية على الدليل الثابت بترجيح الغاية لانعكاس الأثر على استقرار الحياة صلة  بسقوط مصداقيتها مقارنة بالكشف عن مواطن الخلل في القيم والمفاهيم السائدة من جذورها الزمنية التي صاغت تجارب العصور بشواهد انحرافاتها إشكالية ممتدة تستوجب الضرورة  حتمية معالجتها..

وباعتبار قضية الحقيقة والعقيدة هي محور الإشكال الزمني المتجذر بتبعاته في تعقيد سبل استقرار  الحياة فجذر  المعضلة وقف بين توظيف مشروعية النبوءات للإله المتغير قاعدة للتبعية المتشابكة بتبعاتها وبين استفراغ الغاية من وجود الإنسان في العبودية المضمرة بالإدانة الجبرية لوسائط الدين وعقلنتها بالمقدس مرتكزاً لتغييب العقل في التسليم المحمول ظاهرياً على تأسيس الصلة بالرب في الطاعات وباطنه تقييده بالاستلاب والخضوع لسلطة الدين..

وفي سياق البحث عن المبادئ التي أرست مشروعية الإدانة لم أجد من شاهد على ثبوت صحتها سوى أنها تلتقي بمجملها عند توثيق قصص الخلق لمتغيرات الألوهة المجسدة في صورة الظواهر قاعدة متحولة لتمكين البدائل ارتكزت على توظيف نبوءة النفس لعقد السيطرة على حياة ومصير الإنسان..

 وهنا حكمتني الضرورة أن اتجاوز الشاهد المتناقض في توثيق قصص الخلق للتعدد الإلهي إلى الاستناد على الركيزة المتجانسة للتسليم والمقترنة بتغييب المعرفة بوجوده في الإيمان والتصديق القائمين على تضليل العلاقة بين الخالق والمخلوق للدليل الشرطي مفترقاً لثبوت الخلاص بجواز  الامتثال لطاعته..

في ضوء ذلك استوقفتني قصة الحلاج وهو أحد أقطاب التصوف الإسلامي حين بلغ الخليفة المعتصم بأنه يزدري أو ينتقص من الذات الإلهية فأمر بإعدامه دون محاكمة أو استماع لأقواله وحين ذهب جنوده لإحضاره وجدوه بانتظارهم وقد استعد لملاقات مصيرة وعلى ملامحه تبدوا علامات الهدوء والسكينة فبادره كبيرهم هل لديك رسالة للخليفة عسى أن يشفع لك كفرك بالله فرد عليهم ربكم تحت قدمي ولا حاجة لي بشفاعة المخلوق وأنا ذاهب لاستظل برحمة الخالق فتعجب الجنود لإصراره وذهبوا به إلى ساحة الإعدام .. وبعد التنفيذ عاد كبير الجند لإبلاغ الخليفة بنهاية الأمر فسأله هل قال شيئاً قبل موته فأخبره بما قال وحينها أدرك أن في قوله رسالة فأمر الرجل أن يأخذ جنوده ويذهبوا إلى بيت الحلاج ويحفرون في نفس المكان الذي كان واقفا عليه فذهبوا ووجدوا بعض النقود والذهب الذي وضعه حتى يروا حقيقة الرب الذي يعبدونه..

 وبغض النظر عن ما آل إليه موقف الخليفة ومدى استيعابه للجرم المشهود بحق الحلاج من عدمه  إلا أن القضية التي شخصت في ذاكرتي أبعاد الرواية لم تنحصر على ضالة عبودية الأنسان لربوبية المال أو السلطة والجاه أو الشهوات التي تستحكم بقياد النفس وتوجيهها في الحياة بقدر ما وجدتها تلتقي في الاتجاه العام مع ركيزة الدين في توظيف الإيمان والتسليم لعبودية الإنسان لله قرينة للمصلحة الارتباطية والغاية المضمرة بجواز تأسيس العلاقة الشرطية بين المخلوق والخالق في العبادة ..

وتلك في إشارة الحلاج تكشف بوضوح أن حكم الإيمان والتسليم بوجود الله كقرينة ارتباطية بجدوى التراضي والاتكال عليه في الالتزام بالطاعات والتوسل بالدعاء للحصول على المطلب الدنيوي والمتصل  أيضاً بالنعيم في الآخرة هو بحد ذاته تجريد لله بصفة الوسيط المساوي لتقييد عبودية الإنسان لربوبية المصلحة الارتباطية بوصفها الغاية..

وهو الأمر الذي فرض بدوره ضرورة إعمال العقل في التأمل والتفكير بدلالاته ومخرجاته كمنفذ للاستدلال على الحقيقة الثابتة لمعنى وجود الله..

ومن وعي الإلهام الوارد في مناجاتي لله وتضمينه تعالى للمعرفة بحقيقة وجودة في (تأمل حولك تجدني في سماوات الكون مجال حركته ونظامه) تكاملت معالم القياس بصورة (الهباء) في تمثله للنظام قرينة للروح الكونية الضابطة لموازين النشاط صلة بتأسيس مقوماته للصفات والأفعال ومسميات الخلق قاعدة للعقل بوصفه النطاق الفيزيائي لحركة الزمكان في التشكل والبناء وعلة تكوين الحياة ..

وكونه عقلاً خلق الإنسان على حقيقته فالشاهد في صلته دليله الثابت في اقتران المعرفة بقاعدة وجوده حكم توحيده في التخلق بروحانية صفاته وأفعاله ومسمياته عقد بناء يستقيم بتوافقاتها تجسيد الضابط الأخلاقي لموازين الغاية المشتركة لانتظام الحياة ..

من هذا المنطلق خلصت معرفتي بحقيقة ومعنى وجود الله إلى الاستدلال الثابت على أكذوبة الدين من حيث توظيفه للإله المتناقض قاعدة منحرفة جاز بها تغييبه في التبعية للوسائط صلة بتقمصه المتعدد للنقيض الشيطاني في استفراغ العلاقة الشرطية لصلته بالإنسان في الإدانة الجبرية قرينة لشرعنة العبودية بديلاً للخيار والاختيار وتماهي تجميد ضلالاته للعقل في الأصول المقدسة مرتكزاً لتمكين الشر من بسط نفوذه على جسور الحياة..


 الصفحة التالية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق