نبوءة العقل

نبوءة العقل

البداية والنهاية

 

لكل شيء في الوجود بداية هي أساس تكوينه ونقطة الانطلاق في تصفيف حركة الزمكان لمسار نشأته وتطوره كمنظومة بناء متسلسل الترتيب والتركيب تستحضرها توافقات عناصره التناسبية على تمثيل قوانينه لصيغة التجسيد الظاهر والمحسوس بماهيته وطبيعة تكوينه ..

وتلك من حيث الشمول قد تنطبق على حقيقة الوجود والبداية التي صاغت نشأته وتكوينه كقاعدة كونية لفيزياء الحركة الزمنية في المجال محورهاعقدارتباط المكون بالتكوين والمتسق مع توجيه مسار البناء للتشكل المتسلسل للظواهرصلة بتصفيف القوانين لوحدة النظام مرجعية ضابطة للتوازن اقترن تضليلها بثوابت الصفات والأفعال قاعدة روحية لعقلنتها بالعلم وخلفيته في التحقق بتوافقات الإرادة مع القدرة والتي جاز بها تجريد الإنسان للمعنى الكلي بصفة الألوهة قرينة للفعل والتمكين ..

كما تنطبق على بداية وجود الإنسان كظاهرة متطور في الخلق عن تطور جيناته من تمثيل  قوانين الطبيعة الكونية للتركيبة النوعية المشتملة على تناسب جميع العناصر قرينة موازية للنظام الكوني في تسلسل التخلق المركب، وبتفرده عن سائر المخلوقات النوعية بميزة العقل كان معنياً بالبحث عن الحقيقة المتلازمة مع استيعاب معنى وجوده صلة وصل بروابطه بمقاصد وظروف الحياة..

ولأن نشأته الأولى ارتبطت بتمثله للطبيعة الحيوانية وتلازماتها مع قوانين الغاب فقد تشكلت سماته من وعي تناقضاتها سلوكاً وحضور  متدرج من مواجهة الظروف والأحداث التي تهدد حياته ومصيره المجهول ومحاولة البحث عن مخارج لتجاوزها والتي استطاع من وعي محاذيرها النفاذ إلى اكتشاف الوسائل الممكنة لحماية وجوده وصولاً لبسط نفوذه وسيطرته على الوجود وتماهي تصاعد الإشكال في ظل التفكك والخلاف إلى اختزال الحلول في القوة والمغالبة والصراع المتشابك  على مقدرات الحياة ..

وهنا إن جاز لنا تضليلها خلافاً لتصورات الفكر الديني في توصيف قصص الخلق للبداية فمنطقنا يرتكز بالضرورة على استيعابها جذر الحقيقة التي أرسى غيابها خارطة الوعي البشري مفترقاً للتوظيف الملتبس بتوثيق القراءات الاحتمالية لمبدأ الخلق والتكوين قاعدة معرفية صحيحة  شكلت أزمة التاريخ الإنساني حتى يومنا هذا..

وتلك هي القضية الجوهرية لمرتكزات الحقيقة ومتلازماتها في الحضور والتمكين من حيث  شموليتها للمعرفة بخلفية الوجود كقاعدة كونية ضابطة لتصفيف قوانينه المتسلسلة لوحدة البناء بالنظام دليلاً منهجياً لانتظام علاقات وروابط الإنسان بالوجود وطبيعة الحياة ..

ولو أمعنا النظر في مجمل قضايا الفكر بإشكالاته المتصاعدة سنجدها رغم اختلاف وتعدد ميادين المعرفة تلتقي جسورها عند قضية الإنسان ومنهج الحياة والتي ظلت عبر مراحل التاريخ تدور في حلقة مفرغة تسترحلها التجارب معضلة ممتدة لتمحور المعرفة حول الظروف والمعوقات المتعثرة برسم التفكك والصراع مفترقاً للتفرد بالحق استحكمت أدواتها باتساع  سيطرة الشر على جسور  الحياة .. 

ولأن نشأة وظهور الدين ارتبطت بمنظومة الحكم وتوظيفه للألوهة قاعدة كونية مزدوجة مع شخصنتها بالحاكم فقد وقفت إشكاليته تتأرجح بين معضلتي الغموض والتناقض وأهدافه في السيطرة على الإنسان مرتكزاً استوعبه من وعي ارتهان النفس للخوف من المجهول والاعتقاد بوجود قوى متصرفة بمصيره قاعدة لاهوتية حكمت الضرورة إسناده بمشروعية النبوءات عرفاً تقليدياً متبع برز في سياق التجانس في توثيق قصص الخلق (للبداية) واقترانها بظهور الأب الأول للإنسانية مع اختلاف مسمياته اللغوية باختلاف اللهجات..

وبينما اختلفت الروايات الأسطورية في الديانات القديمة باختلاف وتعدد أشكال الآلهات فقد شكل ظهور الديانات التوحيدية في الشرق الأدنى مسار التحول الاستقرائي لمفهوم الألوهة وتوحيدها في الإله السماوي كمبدأ كوني للقدرة المضمرة بخلق الوجود والإنسان والحياة التقت حول توثيق النص التوراتي (للبداية) تصريفاً بتجسيد الإله وقيامه بالعمل الشاق لستة أيام متتالية في خلق الكون والإنسان ومن ثم الاستراحة في اليوم السابع ..

وجاء ظهور المسيحية كديانة مجددة لليهودية شكل حضورها صفة التحول الاصلاحي للامتداد لتلتقي معها حول قصة الخلق مع اعتماد توصيف النص التوراتي بالعهد القديم والإنجيل بالعهد الجديد ..

كما ظهر الإسلام في شبة الجزيرة العربية كامتداد للمسيحية واليهودية ليلتقي معهما على تفاصيل قصة الخلق ومرجعية الإله السماوي الواحد في توصيف خلق الوجود والإنسان بيدية ثم توطينه الجنة إلى تعليمه الأسماء وخلق حواء من ضلعه مع اختلاف طفيف اعتمد الأيام الستة دون استراحة والشيطان بديلاً لوسوسة الأم في الغواية والتي برزت في سياق توظيف القصور والتحريف لفرضية التتابع النبوي للإصلاح المتشابك بعدم اعتراف السابق باللاحق وتعلل اللاحق بالاحتواء الناسخ للتحريف  ..

 وسواء سلمنا بفرضية التوثيق الأسطوري للرواية أو اختلفنا معها من حيث التكييف الوصفي للتجسيد الإلهي المعلل بخلق الوجود والإنسان (آدم) بيديه مروراً بالتفاصيل المتسلسلة إلا أن منطوقها بدلالاته الإيحائية إلا أن فيها ما يستخلص فك الرموز العالقة في ذهنية التوظيف المفترض للإله والإنسان والشيطان والجنة والأسماء والشجرة المحرمة والتي يختزل حضورها الإنسان ثلاثية مزدوجة لبنيوية الفكر وسياقاته المتدرجة في التشكل بين العقل والنفس والروح قاعدة منهجية للحياة ..

وتلك إن جاز لنا تفسيرها خارج إطار المنظور الديني فدلالاتها في اقتران البداية بقصة الخلق مفصلها الرئيس قضية الإنسان والمعرفة الفاصلة بين استيعاب مقاصد الخير قاعدة كونية لانتظام علاقاته بالوجود على الدليل الوفاقي للغاية المضمرة بتمكينه من الأمان والسعادة في الحياة وما بعد الحياة أو العكس في الامتثال للشر طريقاًً للشقاء  ..

فالإله في المقصد العام هو مبدأ الوجود ومجال تكوينه المتفرد بكمال الصفات والأفعال ملكات روحية للقدرة والتمكين المقترنة ضمناً بقاعدة العقل الكوني في  خلق الوجود نظامٌ متسلسل البناء والثبات المتوازن دليل معرفة وسبيل غاية  ..

والوجود هو التجسيد المادي لمسار الحركة الزمنية للقوانين التي شكلت وحدة النظام بعناصر تكوينه المتدرجة في الترتيب والتركيب عن تناسب المكونات وتوافق خصائصها في تخلق الظواهر الكونية شواهد بناء متسلسل  في التطور والنماء ..

وآدم هو رمز للإنسانية  بوصفه المخلوق المتطور عن ماهية وطبيعة الوجود كمنظومة بناء تحقق بالنفخ من روح الخالق بعقد الكمال في التميز بالعقل صفة موازية لحقيقة الرب في القدرة والتمكين..

 وتوطينه الجنة هو عقد الائتمان المفترض بتمكين العقل من حرية الاختيار والاختبار بين البقاء في السعادة الأبدية في معنى الخلود في النعيم كصلة وصل بالتخلق بمقاصد الخير في استيعاب صفات الخالق وأفعاله قاعدة لانتظام وجوده في الحياة وما بعد الحياة أو السقوط في جحيم المعاناة والشقاء في الامتثال للأنا  وتعللاها الدنيوية بدوافع الشر في الانحراف بالقاعدة للضد..

وتعليمه الأسماء هي دلالة رمزية على اكتشافه لرموز اللغة مرجعية لتقييد الحركة الزمنية لفيزياء الفكر بالوعي المؤطر بتأسيس المعرفة لمعنى(كلمة الله) واقترانها بالتحول من الطبيعة الحيوانية إلى الصفة الإنسانية الناطقة مجازاً بتوثيق البداية (لنبوءة العقل)في تضمين الأسماء لقاعدة وجوده في مخلوقاته المضمرة  بتجريد الصفات والأفعال لقيم وفضائل الخير كضوابط روحية لانتظام العلاقات والروابط يستقم بجدواها الدليل الشرطي للتحقق بالغاية  ..

والشجرة المحرمة هي شجرة المعرفة الضدية المرتبطة بتحول النفس من نور العلم الإلهي بحقيقته إلى ظلام الجهل في طبيعة الانحراف بقاعدة العقل الجمعي كثوابت للخير نحو التجرد الذاتي (بالأنا) في الارتهان للغواية ومقاصدها المتجذرة بدواعي التطلع للتفرد بالحق والاستحقاق معرفة متشابكة بتداخل الخير مع الشر قاعدة منهجية  للصراع..

والشيطان هو الفكر المنحرف بالعلم عن ثوابت العقل في تطويق النفس بالرغبات والدوافع والأهواء والطباع قاعدة لامتراء الجهل والقصور والنقص والشر معرفة وسلوك متشابك يستحكم بتوجيهه الغرور والتفاضل في التعاطي مع تفكيك قيم الوجود والحياة وفق تطلعات الإرادة المضمرة بتمثيل المقصد لشيطنة الإله في الاستحقاق والالتزام للبدائل المعرفية وشخوصها قرينة للاستلاب والسيطرة على الذات ..

وبالنظر لمبدأ الوفاق على البداية مروراً بتعطيل علة الاسناد تستوقفنا بديهية النقاش والتساؤل :

لماذا التقت قراءات الديانات التوحيدية حول تأصيل الرواية بالمرجعية الإلهية توثيقاً لائتمان الإنسان (آدم)على الجنة المقترن بحرية الاختيار بين تمثله للخير أو الشر المنافي لتقييده بالإدانة الجبرية والتي شكل انحرافه عن قاعدة العلم بالأسماء إلى الشجرة المحرمة في ضلالة النفس حكم التجرد بفتنة الخطيئة والعصيان فيما تخطت جميعها محاذير الخطيئة إلى التماثل بإسناد نبوءات النفس للوحي الإلهي والاحتكام للغواية في تقييد مشيئته لاستحقاق كل دعي بالتفرد بالوصاية على وجوده في توجيه الحياة؟..

وبحكم أن الرواية من حيث دلالاتها الواضحة والرمزية تستخلص مضامينها وأحكامها أهم الثوابت الإلهية التي انحرف عنها الإنسان تضليلاً بخطيئة (الأب) فالشاهد في امتداد الخطيئة بين الأبناء يتجلى بوضوح في تسلسل تأصيل الفكر الديني (لنبوءة النفس) قاعدة لاهوتية متجانسة بتغييب المعرفة بحقيقة الألوهة في توظيف البدائل ..

وتلك بحيثياتها المتناقضة في التوصيف والتوظيف هي منبع الغواية الشيطانية التي أحاطت فتنتها بأكبر حصيلة من الصراع ونزيف الدم المتواصل عبر المراحل  ولا تزال حتى يومنا هذا تتربع عرش الشر وسيطرته على مقاليدالحياة ..

ولسان حال الشر في تسلسل العصور بأحداثه وتداعياته المسترسلة بين الأجيال وإن طغت عليه في ملتقى الحضور الزمني برجماتية السياسة وتضارب المصالح إلا أنها بمجملها ظلت تسير على خط امتداد المشروع الديني وانقساماته المتجذرة في تطويق مظاهر الصراع لانعكاساته على طبيعة الواقع..

وباعتبار أن قطيعة التأصيل الديني اقترنت شكلياً بتمثيل الوفاق على البداية بوصفها(النواة) التي شكلت ملتقى التوحيد في التأسيس فركيزة (النهاية) تلتقي حولها أيضاً غالبية الأديان من حيث اقتران الأب بالعصيان وتقدير المشيئة الإلهية للرحمة في الخلاص المقترن بظهور الحقيقة آخر الزمان على يد ابن الإنسان والتي وجدفيها كل مدع منفذه للتفرد باحتواء الصفة قاعدة دينية جسدت لعنة الشيطان على الإنسان في امتداد تأصيل (نبوءة النفس) قاعدة  تقليدية لتوظيف المشروعية للبدائل المفترضة بتوثيق التسلسل النبوي عن آدم وتعاطيها للتفرد بالحق مرجعية استحقاق إلهي استحكمت خلافاته بانحراف الوفاق التوحيدي عن ثوابت التأصيل بحيثياته الكاملة ..

ومشروع الحقيقة إن جاز للبشرية أن تستوعب من خلاله ما غاب عنها في شواهد التاريخ قياساً بما آلت إليه الظروف والأحداث من تطورات بلغت محاذيرها تهديد الحياة على سطح الكوكب فهي من حيث تشخيص الواقع لا تقتصر على أسقاط مشروعية الدين بقدر ما تعد بمثابة (ثورة) على الفكر الإنساني بما دانت له تجارب العصور ونتاجها المتعثر من ركام الفوضى والصراع عُرف امتداد الخلل في التركيبة البشرية وحاجتها للضمير المفقود في سديم الوعي المتشظي المعني بهدم جدار الفهم المانع للوفاق في مقتضى نزع فتيل الشر واستيعاب منافذ الخلاص من الشر..

فهي ثورة معرفية من حيث الكشف عن الحقائق الغائبة في منازعات التعدد الخلافي واتجاهاته العائمة في اغتراب العقل وتجميده خلف أسوار الهوية العقائدية والعرقية والجغرافوسياسية وغيرها من أدوات التفكك والانقسام والتي شكلت تداعياتها مفترق الوفاق الإنساني في الإدانة والانقياد لأوهام السباق المسترسل بتصدير النزعات الدونية مشاريع استغلال عبثي تحكمه نرجسية التفرد بالاستحواذ على مقدرات الوجود والحياة .

وهي ضمير المعرفة الحقة في فك معضلة الغموض الكوني وأسراره والكشف عن خلفية نشأة وتطور الوجود والحياة والإنسان والمصير المبهم في عالم الغيب توثيقاً لنظام الحياة في جلال الاستقامة على الطريق والنهج الثابت للتعايش السليم بمشروعيته الفاصلة في الحق والاستحقاق..

 وبموضوعية أهدافها ما يستخلص تفكيك مفاصل العقدة الزمنية للمعرفة والشتات المسترسل عبر العصور لتلتقي جسور الوفاق حول حتمية التغيير في الثورة على المفاهيم والأدوات التي احتكمت دوافعها الغائية لفلسفة القوة والاستعلاء المتسامي بأوهام التطلع للمجد والطموح الواهم بفرض إرادتها في السيطرة على مقدرات الوجود انطلاقاً من وعي  امتلاك الحق الديني أو التاريخي أو العرقي خارطة استحقاق متشابك خطت مساراته منهج التعايش في الحياة على ترجيح قوانين الغاب وجسدت فصوله ومنازعاته واقعاً مفترضاً لسيطرة الشر تتويجاً لغواية الشيطان في اشتراع لاهوت الهوية مفترقاً للخصومة حول الوصاية على الرب سبيله في كل دين تطبيع قداسة الشخوص والنصوص بدائل احتواء استحكمت بتجزئة الحق الواحد وتوطين  التناقض والصراع قاعدة كونية..

ولعل الخطر الداهم في استرسال العماء أن فلسفة القوة والاستكبار في عصرنا الحديث باتت بفعل وسائل التطور والانفتاح ثقافة واسعة الانتشار والامتداد تروج لها وترسم خطوطها وأدوارها أجهزة الاستعمار التقليدي وأدواته على هامش التسطيح البراغماتي الموبوء بفيروس النظرية الميكافيلية في تصويب (فن الممكن) واتجاهاته الموجهة لتطبيع المفاهيم الشيطانية كالمقولة الشهيرة (لا سلام دون حرب) وغيرها من المفاهيم العابثة بروح الإنسانية ومصيرها في الحياة..

وباعتبار فرضية التسليم تنطلق من حيثية أن الصراع ضرورة حتمية تسترعي منازعاته تجاوز المعوقات في الفكر المتخلف والتضحية بأدواته كوسيلة لتخطي الركود وتدوير عجلة التطور في البناء ففي ذلك ما يستوجب تمثيل الاستثناء بالبقاء للأقوى وتعميد قانون الغاب قاعدة متداولة بين الأجيال !..

ووفقاً لفرضية الاستثناء في بلوغ التطور الزمني مرحلة النهضة العلمية قل أن تستوقفنا التجارب الزمنية أمام المراجعة التاريخية والاستدراك المنظور بنتاجه أمام التساؤل :

هل بمقتضى التسليم الآني للأقوى ستنتهي إشكالية الإنسان بسيطرة المنتصر وفرض وجوده وفكره وتماهي قوة الآخر بعدته وعتاده في الانقياد والتبعية لجبروت القهر دون تبعات مستقبلية؟ وهل في تجارب الصراع التاريخي بشواهده وتبعاته ما يؤيد صحة الافتراض؟

ولعل الشاهد الذي قل أن تستحضره مخاوفنا اليوم على خط الاحتراز من بلوغ الكارثة مداها هو:

إلى أين ستنتهي بنا عجلة الصراع العابث بإنسانيتنا وحياتنا؟ وكيف لنا كشعوب أن نستشعر الخطر الداهم على وجودنا لنتخطى محاذير المواجهة المتنامية وتبعاتها قبل فوات الأوان ؟

ومن ثم هل تستوجب الضرورة أن تحكمنا فوضوية الفكر الهمجي وأدواته الوالجة في تمزيق وجودنا الواحد والتحكم بمصيرنا في الحياة ؟

فبينما يقف العالم اليوم على رصيف النهاية بحثاً عن سُبل الخلاص نجد سباق السيطرة الدينية والسياسية والاقتصادية والتسلح تفرض حضورها واقعا يغيب فيه العقل الأممي عن إدارة وتوجيه موازين القوة والصراع في الانجرار خلف هامش المصالح والتعاطي بانعدام المسئولية تجاه شعوب العالم المتخلف وأخطار تداعياتها لتنوء بعقولهم السبل عن قراءة الواقع ومحاذيره في محاولة تضييق سُبل الخروج من متاهاته الراكدة في ظلام الجهل شواهد مسترسلة بتطويق الإنسان بهمجية السقوط الممنهج باستلاب وعيه حضور متجدد الانقياد لعفوية الانقسام وراء شطط الساسة ورجال الدين والمتنفذين ومشاريعهم المتعثرة بجنوح الارتهان للمصالح وأدواتها المستحكمة بتغييب الضمير الأخلاقي في احتراف الفوضى والتجويع وسيلة لقهر الشعوب ..

ولئن جاز لنا أن نستشعر الخطأ في جهلنا فسجل التاريخ حافل بالشواهد! و في واقعنا المعاصر أبلغ رسالة وأقوم دليل يستوجب التأمل والتفكير فيما آلت إليه مخاطر المواجهات والأحداث الدموية في ساحة الصراع وسباق تكنولوجيا التسلح التي خطت أدواته بالمعية صدام الإنسان مع الطبيعة الكونية وعززت نتائجه انتشار الأوبئة والأمراض المستعصية ناهيك عن خطر التغيرات المناخية على مستقبل الوجود البشري وعلى وجه الخصوص في الدول المتقدمة التي بالغت أدواتها في امتهان وقهر الطبيعة الكونية ..

والقضية في حتمية تجاوز الخطر أن صراع اليوم لم يعُدمجرد صراعٍ تقليدي في الفكروالعقيدة والعدة والعتاد كما كان بالأمس وإنما هو صراع منظومات متطورة تتجاوز خطوطه الحمراء كل الحروب التقليدية بتبعاتها إلى اتساع دائرة الخطر وامتداده في خارطة الوجود مع تنامي وتطور أسلحة الدمار الشامل الكفيلة بهدم مقومات البقاء دون ضابط أو عقل يحكمها إذا ما ساس وجهتها جنون العظمة والغرور والكبرياء في عقول لا تؤمن باستحقاق شعوبها للأمان والاستقرار ولا تملك من ظلال الإنسانية سوى رداء الحضارة التقليدية الموشى بزخارف وأوهام الطموح الأعمى الجامح للسيطرة والتحكم بمقدرات الوجود والحياة..

وتلك هي جانحة الشيطان في تمكين الغواية من استرسال الشر مطية للفوضى المتجذرة بين صكوك النفس البشرية ونزعاتها الغوغائية التي أرسى طغيانها تطويق العقل في الهامش الدنيوي المظلم ودان قيادها لفكرٍ تاه به العماء في ملكوت الأطماع ودوافعه العدوانية لهمجية القرصنة والغزو وسفك الدماء عقد استرسال عبثي شذ بأوهامه الغرور في الجنوح نحو الاستغلال والاستحواذ على حقوق المستضعفين والتعالي المفتون بجلال الانتصارات المزعومة وكان سبيله عبر العصور إرساء طاغوت القهر وتعميد لاهوته في كل عقيدة شيطان وفي كل قضية من قضايا الصراع ميراث أحقاد وكراهية ممتدة وفي كل ساحة ملحمة دموية روايتها الموت والخراب وبقايا أطلال الإنسان..

فإن جاز للعقل والضمير الإنساني أن يستدركها ففي ذلك جادة السمو والارتقاء بالوعي إلى بساط المعالجة الصحيحة واستدراك النتائج بعين المصير والحق دليل استحقاقه الواحد في اعتماد الخلاص من الشر سبيل انتظام..

ذلك أن القضية بملابساتها الفكرية لم تقف وحسب عند فرضية معادلة توازن المصالح الدولية أو الصراع السياسي في مناورات السباق الحضاري بقضاياه المتشاكلة وإنما هي قضية الجذور العقائدية والثقافية في وجدان الضمير الأخلاقي والمبادئ التي أرست دعائم الفصل بين الوجود البشري الواحد وساست غمار الفتنة والانقسام نحو توسيع الهوة وتماهي منظومة القيم ومبادئ العلاقات الإنسانية في تجذر المصالح السياسية والاقتصادية والفئوية المتعارضة في تركيبة الوجود الواحد..

 وصراع اليوم هو نفس الامتداد لصراع الهوية الدينية والعرقية والسياسية المسترسلة في موروث الخلاف والاختلاف وتبعاته المتجذرة في وعي الشعوب وثقافاتها الدونية التي رسخ في وجدانها مسخ الكراهية والحقد بنزعاته العدوانية للانتقام من خصوم الأمس ودان فكرها لشطط الاستعلاء والتفرد بمقدرات الحياة مطية لقهر وامتهان الشعوب التي لاحول لها ولا قوة والعمل على تجريدها من استحقاق البقاء..

 من هنا فإن قضيتنا اليوم مع الصراع لم تعد مجرد إضافة جديدة تسير على هدي السباق التقليدي والمغالبة في التمكين من استحقاق السياد على الوجود، ولا قضية امتهان لفكرٍ رسخ في وجدان الأمم والشعوب ثقافات وعقائد وتجارب ترتهن لمقومات الهوية والتفرد بالخصوصية الحضارية.. ,وإنما هي قضية الحقيقة الغائبة عن عقولنا والمصير المبهم في تجاوزات الفكر المتشظي بتشابكاته واستدراك الوعي البشري للخطأ في جموح أوهامه العالقة في توابيت الماضي وجدرانه لتحرير الضمير والوجدان من سيطرة الشر وطغيانه..

وهو الأمر الذي يتطلب منا جميعاً كشعوب وأفراد أن نستدرك النهاية والمصير الواحد في التعاطي بمسئولية مشتركة لحماية أنفسنا ووجودنا الذي ساس تمزيقه معاقل الصراع وأدواته الموبوءة بالغرور والجهل وشطط الحقد والكراهية والنزعات العدوانية تعللا بالحق التاريخي للهوية المتجذرة عن صراع المصالح والأطماع في جنوح السياسات المتعالية بفساد الضمائر والأخلاق لنقف كشعوب وقفة رجل واحد لمواجهة وتجفيف منابع الشر بالكلمة الأمينة والصادقة ونمد أيدينا إلى أيدي بعض بروح المحبة والسلام والتصالح والتسامح والوفاق والتكامل لنؤسس وحدة الشراكة المتضامنة على توحيد قيم الحق واستحقاقاته في تمثيل الضمير الإنساني الواحد قاعدة أخلاقية لصياغة وجود تحكمه العقول الأمينة والضمائر النزيهة بالشراكة المتوازنة في بناء الوجود والتعايش الآمن في الحياة..


الصفحة التالية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق