نبوءة العقل

نبوءة العقل

الحقيقة والغاية

 لو لم يكن للحياة معنىً لما كان لوجودها من  سبيل..

فلكل حقيقة غايةٌ هي سبيلها, ولكل غاية معنى هو دليلها  في الارتقاء نحو الكمال..

وحقيقة الله ليست الغاية من وجودنا وإنما هي الدليل الروحي والمعرفي لغاية أبدية هي عمار النفس كقاعدة لبناء الحياة بمعاني الخير وفضائله  لغاية أزلية  هي عمار الروح لعالم الاستقرار والبقاء..

وعلى غير السياق وقفت معادلة الغاية في الفكر الديني عند تجسيد المطلب النفعي في العلاقة بين الإنسان والخالق وحكم وجوبها تمثيل العبادات والخنوع في سياق تظليل عبودية المخلوق للخالق مقابل الرضا في تحقيق  مطالبه في الدنيا والسعادة في الآخرة , وهو الأمر الذي أرسى الثابت المنهجي على خصوصية التميز المتعدد في ابتكار الطقوس والنواميس العقائدية كقيمة فاصلة في الحق والاستحقاق ..

والقضية بين تقييد العبادة ومنطق الاستحقاق قد لاتعدوا كونها ظاهرة ممتدة في التجربة العقائدية ظهرت في سياق المقاربة الموضوعية للواقع بمنظوماته وشرائحه الطبقية  والتي سادت على مدى عصور ممتدة وظلت خارج المعنى الإلهي حتى يومنا هذا..

ووجه الالتباس في تجريد العلاقة بين الإنسان والرب بطبيعة العبادات شاهدها التجسيد المحتمل لصور الألوهة كمظهر منفصل بذاته يتربع عرش الوجود ويستشعر الزهو والكبرياء في امتثال خلقه للسجود والركوع بين يدية.. وفي ذلك ما يسقط العلاقة الرابطة في معنى وجوده ويوجهها خارج السياق ..

والحقيقة أن مرجعية العلاقة بين الإنسان والخالق هي قاعدة القيم والفضائل الاخلاقية كمنظومة للبناء الروحي المتدرج من بناء الإنسان إلى بناء المكون الاجتماعي في سياق وحدة العلاقة كمنهج ثابت تلتقي فيه الإنسانية حول تجسيد الغاية ..    

ولأن قضية الإنسان في تجربة الحياة وقفت على قضية الوجود الموازي وخصوصية النظام والحضارة والتنافس والصراع والتعدد والاختلاف إلى آخر ذلك من قضايا الوجود فقد شكلت معادلتها امتداد الخلل في الفكر والعقيدة وانحطاط العقل الأخلاقي في تمثيل منظومة العلاقات والروابط البشرية ..

فمنذ بدء التاريخ عاشت البشرية أوهام السباق والخصوصية الدينية والثقافية والحضارة المدنية والعلمية واستطاعت دول أن تقف على رأس الهرم القيادي لدول العالم قوة وحضارة واقتصاد.

وفي فصول التاريخ ما يكشف لنا صوراً مختلفة لنماذج من الإمبراطوريات والدول التي بلغت أوج عظمتها ولم  تلبث أن انهارت وتحولت إلى جزءاً من التاريخ  الذي كان  .

ولعل تاريخ الصراع وفرضية القوة لم يمثل سوى الخيار  الآني المتغير لمحاولة السيطرة وليس احتواء الشتات البشري في دائرة الاستقرار والبناء  الصحيح  .

وبين ما خلفته نتائج  الصراع  البشري من فرقة  وشتات  وأحقاد  ونزاعات  دينية  وعرقية  وطائفية يبن  أبناء الجنس الواحد فقد ظلت هوية الصراع في  تطور مستمر حتى بلغت من الإنسان تجسيد هويته الحيوانية وأصبحت الحياة في مرمى طموحاته وأحلامه الذاتية حاله من الصراع  المتآكل في جانحة المطلب.

وحين ننظر إلى الدين كمدخل لوحدة المجتمع البشري فلا نعني بذلك وحدة الخطاء أو الخلل العقائدي في تركيبه الأديان فحسب وإنما نعني  به  مراجعة وتقييم العلاقات الإنسانية وفق مرجعية الشراكة في الوجود الواحد والحق الواحد والقيم والفضائل المشتركة بين المجتمعات الإنسانية بما يحقق وحدة الله  في قلوب البشر.

والغاية من وحدة الدين هي وحدة الروح والعطاء كمطلب لاستقرار الإنسانية ورخائها ووحدة الضمير حول تفكيك حلقات الصراع والحروب بين الأمم  والأديان والطوائف والأعراق , وبناء قاعدة أخلاقية مترابطة ونظام عالمي عادل  تتوافق فيه المصالح الإنسانية على حد سواء .

فقضية الصراع والتمزق الديني والسياسي هي جذر الإشكال في تعذر الاستقرار الإنساني عبر التاريخ ونبع الشر المتسلسل بين الأجيال ..

وحين نستلهم الغاية من وحدة الإنسانية بتمثيل المنظومة العالمية الواحدة ففي ذلك ما يعنى استئصال الجذور التي أنتجت مظاهر الشر  بعوارضه الجانحة في إسقاط إنسانيتنا وتهويم مقدرات العقل في بناء الحياة..

وإذا ما استوقفتنا الدلالات أمام الناتج المبدئي من مقدرات الصراع  وحدها  والتي توجه لبناء  الجيوش  وشراء أو صناعة الأسلحة التقليدية  والمتطورة في  دول العالم لوجدنا  في  القيمة المدفوعة من ضرائب الشعوب ومقدراتها ما يكفي لبناء منظومات اقتصادية متطورة ومستقرة لهذه الدول تكفل لمواطنيها المستوى الأمثل للأمان المعيشي والارتقاء بالحياة ..

ناهيك عن ذلك فأن مفارقات التجارب المتعددة للسياسات هي التي خلقت بوعيها انعدام التوازن بين الدول من جهة ومن جهة أخرى بين مواطنيها ومن ثم مواطني الشعوب المتخلفة ..

فمعدلات الفقر والبطالة والحرمان وغيرها في بلدان العالم المتطور والمتخلف هي نتاج طبيعي لمقومات السياسات المتضاربة التي تستثني حق الإنسان في الاستقرار والأمان وتوجه إمكانات الشعوب لتمثيل معادلة الصراع التقليدي وفرضياته على جميع المستويات ..

ومن هنا كان مطلب وحدة الفكر الديني هو جسر الامتداد نحو توحيد المنظومة الدولية كرافد موضوعي ومطلب زمني يؤسس القاعدة الأخلاقية للتعايش بتجسيد رسالة الحياة وتوحيد الهدف المشترك نحو تحقيق  السلام العادل  ..

وبذلك يتحقق بناء اقتصادٍ عالمي متكامل يحقق التوازن الاجتماعي والأخلاقي في تركيبه الأنماط والشرائح البشرية بما يكفل للجميع بناء حياة مستقرة وآمنه بعيداً عن تدخل وسيطرة الأطماع والأهداف المتجذرة في طبيعة النفس الأمارة..

وفي ذلك ما يحقق أيضاً القضاء على الفقر والجهل والمرض والبطالة في العالم حيث تلتقي الثقافات والحضارات الإنسانية باتجاه الارتقاء  بالفكر الإنساني والإبداع العلمي لخدمة البشرية وتحقيق أعلى نسبة من السعادة  المطلوبة لرفاهة الإنسان.

وبوحدة الروح تزول الدوافع التي أنتجت مظاهر التسلح والتهديد وتعيد التوازن الأخلاقي للإنسان والعلم  والحياة , وتتجه القدرات العلمية لحماية الإنسان والطبيعة ومواجهة الأخطار التي تحيط بكوكبنا نتاج الصناعات والأبحاث العلمية الخاطئة .

وهكذا تتحقق وحدة الله في الإنسان ووحدة الإنسانية في الله نحو بلوغ الكمال المعرفي وبناء الحياة بروح واحدة هدفها بلوغ أعلى مراتب السعادة الأبدية للإنسان في الحياة كطريق معلوم الهوية لبلوغ السعادة الكاملة في الحياة الأخرى ..

ولأن القيمة تقتضي إزاله المعوقات التي جسدت عوامل الفصل والتجزئة الجغرافية والسياسية والعرقية فمؤسس هذه التجزئة كان ولا يزال مقومه تجزئة الحقيقة الواحدة في تجربة الدين والسياسة..

فالحقيقة في تجربة الدين عبر التاريخ لم تقف وحسب عند قضية الألوهة كمرجعية متعددة الوجوه للحياة وما بعد الحياة تستوجب الائتمان والانقياد لطاعتها .. وإنما لكون القاعدة في نشأة الدين والدولة وقف مقومها على توظيف الإله  للحاكمية السياسية والاحتكام لسلطته ووقف التسليم بوجود الإله واستحقاقه على الإيمان بمسلمات الدين كمرجعية للحياة..

ولا شك أن في فهمنا للتجارب الدينية والسياسية على مدى تاريخ الإنسانية بصراعاتها واختلال موازين العلاقة فيها ما يشخص معطياتها بواقعية الخلل والالتباس المتسلسل في التاريخ  وفي ذلك ما يضعنا أمام اختبار جاد أمام الله وضميرنا الإنساني في تحمل المسئولية الكاملة لتصحيح المسار والخروج بالواقع من دائرة الشك والسقوط في مستنقع الجهل والضياع ..


 الصفحة التالية

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق