نبوءة العقل

نبوءة العقل

نبوءة العقل

 

 ونحن نتأمل في عظمة الوجود وأسراره قد تستوقفنا مشاهد الحياة في حركة العالم من حولنا وهو يدور في عجلة الزمكان دون توقف لنرى من خلاله ضلال حضورنا المبهم في سجل أسفاره شبه رواية سادرة في ظلام المجهول يستجمعها وهم شعورنا الحسي بمتناقضات اللذة والألم والأمان والخوف والسعادة والشقاء منفذا للتوجس في تداخل الشك باليقين بحثاً عن الغاية من وجودنا في متاهة الحياة..

 وبين سديم الغاية وتحولات العمر الغارب في شتات  المتاهة غالباً ما تبرز  في الوعي بعض المعضلات التي لطالما واستعصت  على جدلية التاريخ وأرست مفترق الخلاف والاختلاف حول تفسير علة الوجود وخلفية الخير والشر كمسألتين  هما أساس المعرفة بجميع القضايا العالقة بين شتات الفكر الإنساني لترسوا بنا أمام أرجوحة المعضلة الزمنية للعقل المتشابك حول كيفية الوصول إلى المعرفة  ..

 وعلى بهو المعضلة فنحن نعيش الحياة بغموضها الراكد خلف ستار  المجهول واقعاً مفترضاً لامتداد التجارب  والقيود والأعراف والتقاليد والمعتقدات التي نتشكل بمفاهيمها وعياً وسلوك وسمات وأخلاق وتعاملات متشابكة تحكمنا ارهاصاتها بمحاذير انعدام التوازن في التركيبة أن نتعاطى مع تبعاتها  بعفوية  التسليم دون قراءة الأسباب والنتائج في انعكاساتها الزمنية واحتراز الضرورة المعرفية للمراجعة والتثبت من ملابساتها بهدف الإصلاح وتصحيح الخلل في انعكاساتها على واقعنا ومصيرنا في  الحياة..

والقضية في قراءة الواقع  هي قضية تجميد العقل في نطاق التجارب العشوائية المتزامنة مع ارتباط  كل محيط بالموروث الزمني المتقوقع في محيط الفهم المتعارض بجدلية الخلاف والاختلاف بالإضافة إلى تطويق علاقات الأمم والشعوب بالقيود والحدود المتجانسة بتوظيف الخصوصية العقائدية والثقافية والحضارية والتي ترافقت مع رسملة الهوية الدينية والجغرافوسياسية للتفكك  المتدرج من تطبيع النظم السلطوية للفوارق الاجتماعية حتى تمزيق النسيج البشري الواحد إلى مظاهر مختلفة من السلالات والأجناس والأعراق والطوائف والعقائد التي أرست بدورها تعزيز الواقع بالنزعات المتشابكة واغتراب العقل  في ساحات  الصراع..

  وحضور الشاهد في تضليل هذه الحقيقة ثابت بأن أزمة التاريخ بكل مشاكله وظروفه ومعوقاته وصراعاته وأحداثه ما كان لها أن تتسع وتمتد عبر تحولات العصور لولا غياب العقل وما كان للشر بمظاهره وأعراضه ووسائله وأدواته أن يستفحل ويتجذر في عمق الحياة والإنسان لولا تغييبه أو بالأصح إلغاء وجوده ..

  وقضية العقل  هنا إذا ما تجاوزنا محاذير الخلط في تقييده بالنفس فهي  بالمعنى الاستدلالي قضية آلية المعرفة  صلة بكونه يجسد لغز الفكر في تقييد أبعاد حركة الزمكان والدليل المغيب عن تمثيل المعرفة بالحقيقة والإجابة على كل التساؤلات المبهمة كقيمة جذرية تختزل معالجاته النظرية كافة الحلول المستعصية على فهم الإنسان لعلاقاته بالوجود والحياة ..

ولأن قضية البحث في العقل هي دون شك أشبه بالغور في عمق المتاهة الزمنية بكل قضاياها العالقة في حركة التاريخ فقد أوجب الاستثناء أن أتخطى كل ما تناولته النظريات الاحتمالية إلى تحديد أصل المشكلة المحمولة على  توضيح دلالات الصفة الملتبسة بين تمثيل وجوده وغيابه أو تغييبه في محور صلته باستيعاب ثوابت ومتغيرات  المعرفة بالوجود والإنسان  وقضايا الخير والشر في  منهج الحياة..

 وتلك من حيث تأسيس القيمة الاعتبارية لمفهوم العقل فللدلالة المعنوية في تضمين جوهر الصفة حكم الاقتران بالمعرفة كمنهج متلازم مع تمثيل القاعدة الموجهة لانضباط مقاصد الفكر على بناء وتقويم منظومة العلاقات والروابط المتسلسلة في طبيعة تكوين الوجود والإنسان والحياة ، وفي ذلك ما يعني بأن العقل والمعرفة هما مرادفين لمعنى الإحاطة أو العلم بحقيقة الشي في جواز اقتران وحدة المكون بالتكوين.. 

وانطلاقاً من موضوعية المفهوم فإن جميع المعارف والعلوم بمختلف مناهجها واتجاهاتها الفكرية تلتقي مقاصدها عند تأسيس فرضية المعرفة بحقائق الوجود الكلي المتلازم مع توثيق الخلاف والاختلاف لمتغيرات المعرفة بدلالاته قرينة لغياب العقل الموازي لتحقق وجوده عقلاً في كمون الحقيقة بطبيعة تكوينه المجرد باختزال حركة الزمكان لقوانين وحدة المادة بالطاقة صلة بتجسيد توافقات عناصر البناء لموازين النظام كقاعدة روحية موجهة للنشاط الكوني على تمثيل ثوابت الانضباط ..

 من هذا المنطلق يرتكز منظورنا لتأسيس المعادلة النظرية للعقل على اقتران فيزياء الحركة الزمنية بتسلسل التكوين والتي نستخلصها فيما يلي:

1-أن وجود الشيء من لا شيء أو من عدم هو المستحيل بعينه

2- أن تحقق الوجود بالظهور الملموس يستحيل دون وجود مقومات لوجوده

3-أن للمقومات دلالة القدرة على التمكين المرتبطة بوجود المكٍّون

4-أن  وجود المكون له حكم البداية التي أطلقت وجود الشيء  ..

5-أن بداية الكون ارتبطت بوجود(الهباء)وتحققه المبدئي بصفات الأولية والوحدانية والأحدية والإطلاق والإحاطة..

6-أن وجود الهباء لا يمكن قياسه بالعدم بوصفه قاعدة البناء ومجال انبعاث النشاط ..

7-أن مبدأ النشاط ارتبط بوجود الظلام الكوني في محيط الهباء واقترانه بماهية الطاقة الخلفية التي صاغت فيزياء الحركة الزمنية لنشأة الحياة  .

8-أن نشأة الحياة اقترن بتدرج توليف طاقة الحركة الزمنية لفيزياء الفكر في صيغة المثُل المجردة بهيولي(الصور والأشكال والألوان والأعداد والأحجام والحركات والأبعاد والسمات) واقترانها بتمثيل اتجاه الإرادة  التي صاغت بدورها منظومة الصفات قاعدة كونية لاتحاد الممكن بالتمكين.

9- أن تقييد الصفات  بالقاعدة الكونية كان له حكم تجسيد توافقاتها لملكات القدرة المعللة في قراءات الدين  بصفة (الملائكة) بوصفها أنوار الطاعات الموجهة لتصريف مقاصد التخلق بمظاهر الخلق.

10-أن توصيف الملكات بأنوار الطاعات تلازم مع تجسيد طاقاتها الروحية لمعادلات الفكر مرجعية للإحاطة المعرفية بالمقاصد الكلية واقتران أدائها بتوثيق وحدة الكينونة للعلم بثوابت وجوده وتحققه بصفة العقل الخالق صلة بتأسيس وحدة الفكر لمتلازمات القدرة في الربوبية المجردة بمعنى الإله.  

 11- أن وحدة العقل الخالق تلازمت مع تخلق القوانين بالفعل الإلهي وتحققها بموازين التناسب في تأسيس توافقات النظام لوحدة المكون بالتكوين.   

12-أن تحقق النظام الكوني بموازين التناسب كان له حكم الاقتران بصفة العقل المادي بوصفة الموجه لتوافقات الطبيعة الكونية وضوابطها في التخلق الموازي  ..

 13-أن لتفرد العقل المادي بصيغة النظام حكم تأسيس القاعدة الكونية لعقد الصلة بخلق الإنسان المزدوج من تطور عناصر المادة الكونية المرموز إليها بطينة الأرض قرينة لمجازية النفخ على صورته من نور العلم صلة بتقييده في  الغاية المشتركة من تفويضه مؤتمناً على مشروع الحياة.

14- أن لتوجيه الحياة على الغاية دلالتها المقروءة بتجريد المحسوس والمعقول لانعكاس الأثر على تجسيد الطبيعة الكونية للتوافق الحسي مع مقاصد التمكين المعللة باقتران جوهر الإنسان بالشعور بالسعادة الروحية المشار إليها بمعنى البقاء في الجنة.

15-أن لتأسيس المعرفة بوحدة الفكر في الغاية  كان له حكم تكليف العقل بحرية الاختيار  بين طريق الخير في تمثيل الشراكة الأخلاقية لروابط وعلاقات الحياة أو طريق الشر بالتجرد الذاتي  والامتثال لرغبات النفس الأمارة بالسوء في مسلك الشقاء .

16-أن الأساس في إطلاق حرية الاختيار  للعقل ارتبط بارتقاء الإنسان عن المخلوقات الحيوانية في اكتشاف اللغة المرموز إليها بتعليمه الأسماء  عقد تأسيس الصلة في الاستنارة بنور العلم..

 17-أن تأسيس العلاقة الشرطية تجاوزها الإنسان بالخروج عن العقل في الانحراف من نور العلم إلى ظلام الجهل في التجرد برغبات النفس المادية وتطلعاتها حكماً جاز به توثيق الخطيئة لتحول جنة الأرض إلى دنيا الشقاء وعلى دأبه سار جميع الأبناء..

18-أن امتداد الخطيئة في الأبناء ارتبطت منذ بداية التاريخ بقضايا الخلاف والاختلاف والتفكك والصراع والتي تشكلت معضلاتها بواقع تغييب العقل في الشتات المعرفي للفكر المتجذر في صياغة وعي وثقافات وطبيعة الشعوب بقيود وحدود متغيراته..

19-أن مسألة تغييب العقل في الفكر المتجذر بتبعاته كان له حكم اقتران الإشكال الزمني بأزمة المعرفة المتلازمة مع اتساع دوائر الشر في الحياة صلة بتخلق الأبناء بانحرافاته والتي بلغت أعلى مراتب السقوط الأخلاقي في تجسيد  الهمجية لسلوكيات الهدم الموجه للقضاء على الحياة .. 

 وانطلاقاً من موضوعية المعالجة بتسلسل استنتاجاتها نستخلص أن إشكالية فهم العقل لها خلفيتها المتصلة بتغييبه في معنى اقتران الإنسان بالمخلوق على صورة الخالق وانحرافه عن القاعدة الكونية للعلم بالخير والشر في دلالة الصفات والأفعال والأسماء والذي شكلت تبعاته تغييب العقول المتسلسلة عن وجوده بتراتباتها في التشكل بخصائص الفكر ودلالاته المعرفية المقننة بخاصية الأداء ..

وباعتبار أن الإنسان هو المعني باستكشاف وإصلاح الخلل في تكوينه المعرفي الموازي لانتظام علاقاته المتسلسلة بمنظومة التكوين فتلك من حيث اقتران العقل بتقييد فيزياء الفكر لخصائص المعقول والمحسوس في حركة الوجود والحياة واختزال طبيعته سيكولوجية للتفاعل والأداء هي دون شك تحتكم لمعايير التدرج المنظور بتجسيد مراتب الوعي لخلفية التشكل بالمعرفة التي تحكم وجودنا بقوانينها والتي نستخلص تصنيف مراتبها في الآتي :

المرتبة الأولى : العقل الهيولي (المطلق)

 وهو الجوهر القائم بحركة الزمكان والمتجسد في صورة النور المحيط بحقائق وأسرار الوجود والحياة كما تجسدت بروحانية جلالة وجماله وكماله بمعاني الصفات وتشكلت في هيولي مجاله بصور ودلالات فكر وجوده قاعدة كونية استقام بعلمه بها اقتران صفته بالعقل الخالق صلة بتخلق الإرادة بملكات القدرة المنظورة في أحكام الربوبية بأنوار الطاعات تضميناً لمرجعية الأمر الإلهي في توجيه طاقات القدرة للتحكم بموازين السيطرة  المنضبطة على تأسيس وحدة الخالق بمخلوقاته صلة بتقييد المكون بمتلازمات  الاستحقاق في التمكين ..

وبحكم اقتران العقل الهيولي بالهباء المطلق وتحققه بصفات الجلال والجمال والكمال المنزه عن الجهل والقصو والشر والتناقض فقد كان لمعنى وجوده المتلازم مع انعدام تقييده بعناصر المادة  ثبوت الأصل الواحد المتفرد بكونه الخالق الذي تفرعت عنه مظاهر التكوين بقرائن العقول ..

وفي تحققه بالصفات ما يعلل اقتران المعنى بثوابت الفكر في القيم وفضائل الأخلاق التي التقت حولها البشرية منذ بداية التاريخ وتوافقت على تضليلها بمقاصد الربوبية والتي لم تنحصر على الفكر الديني وحده وإنما تجاوزته إلى الفلسفة حيث نجد الفيلسوف اليوناني الرائد (أفلاطون) يستند إليها كدليل على خلفية الوجود كما عرض لها في نظريته الشهيرة (المثُل) والتي بنى عليها فلسفته عن تأسيس المدينة الفاضلة..

وفي سياق تضليلها بعلة القدرة في الهباء فالشاهد يبدوا واضحاً من تخلقنا بسماتها وانعكاساتها على تأثيرنا في الواقع كما ينطبق حكمها على مقاربة ملكة الخيال غي قدرة الرسام المبدع على تجسيد صور الظواهر الكونية بسماتها ومؤثراتها الروحية كمثال موازي للقوى الكامنة في جوهر الفراغ والتي يمكن قياسها أشبه بموجات أثيرية يستحيل رصدها بالعين المجردة أو المنظار(التليسكوب)كونها تشخص أدنى درجات الطاقة المتداخلة مع الضوء في امتداد الهباء كمجال تتداخل في محيطه أطياف المؤثرات الحسية المتدرجة في التشكل والظهور والتي تناولها أيضاً الفيلسوف اليوناني الرائد(أرسطو)في سياق تضمين فلسفته عن الوجود لاعتقاده بأن الفضاء ممتلئ بالأثير الذي أطلق عليه مفهوم (الجوهر الخامس)..

وذلك ما أثبته العلم في القرن العشرين على يد عالم الفيزياء الألماني(آينشتاين)في تضمين النسبية العامة ونظرية الاحتمالات لوجود فراغاً كونياً يتعلق بحقول وكمونات ممتلئة ألقت بتأثيرها على تحول نظرة الفيزيائيين للفراغ خاصة مع الاستنتاجات المذهلة التي ظهرت عن دراسة مكامن القوة في خلفيته حيث أصبح العلماء يتحدثون عن طاقة عظيمة تمسك بالكون بل ويجزمون قطعاً بأن لولا وجود هذه الطاقة لتلاشى الكون وزال باعتبارها القوة التي تعمل على بقائه في حالة من التوازن والثبات فيما أطلقوا عليها مصطلح (طاقة الفراغ)..

المرتبة  الثانية : العقل  (المادي)

وهو جوهر الوجود المقنن بازدواجية النفس ممثلة بالطبيعة الكونية والنظام بوصفه حلقة الامتداد المنعكس عن قدرة العقل الهيولي على تجسيد  الطاقة لماهية التكوين المنبثقة عن اتحاد قوانين الحركة والتناسب  بعناصر المادة وتخلقها عن بعض وصولاً للتشكل  بمظاهر الوجود الموازي لتقييد توافقاتها لموازين الانضباط في تأسيس معادلة البناء  ..

وكما اتسم العقل الهيولي باقتران قاعدة تكوينه بالصفات المقننة بتوصيف القواعد والأحكام والروابط الوفاقية المجردة   بالمعقولات(كالحق والعلم والعدل والجمال والكمال وغيرها)ينفرد العقل المادي بتجسيد قوانين الطبيعة الكونية لمقاصد المعرفة بطبيعة المحسوسات التي تشكلت بمظاهر الوجود بخصائصها المركبة من تناسب العناصر واختزلت توافقاتها قاعدة ضابطة لمنظومة البناء ..

وبحكم اتساع دائرة العقل الكوني وتشكل مظاهره المادية في الأبعاد فقد تلازم هذا التشكل مع اقتران كل منظومة بأبعادها بصفة الكيان المزدوج بتقييد توافقات عناصر تكوينه لسيكولوجيته النفس الباطنة المنضبطة مع تجسيد محيطه الفلكي للمعادلة القياسية بالعقل المعني بتمثيل علاقاته مع المنظومات الأخرى..

وتلك يمكن قياسها بمنظومتنا الشمسية والتي تشكل حلقة من حلقات النظام الكوني المتعدد بحيث تمثل الشمس مرجعية العقل الموجه لانتظام علاقات المجموعة بموازين طاقاته الحرارية والضوئية المقننة بتمثيل النشاط المتناسق في الأبعاد لمقياس الحركة الزمنية لكل منها بتوافقاتها المحكومة بمقدرات الانضباط بالإضافة إلى تجسيد روافدها لقوانين الطبيعة الكونية الماثلة بانعكاس الطاقة على تشكيل مقومات  كل كوكب..

 المرتبة الثالثة : العقل المؤتمن (المنهجي)

وهو العقل المخلوق على ازدواجية التكوين المعلل بخلق الإنسان آدم من طينة الأرض كدلالة على تجسيده المادي لموازين   الحياة المقننة بتأسيس تناسب عناصر الطبيعة الكونية لمنظومة تكوينه الوظائفي المشار إليه برمزية النفخ من روح الخالق واقتران الخلق على صورته في العقل بتعليمه الأسماء صلة بتوثيق الكلمة للمعرفة (بمقاصد الخير في دلالات وجوده) والاكتفاء بنهيه عن الاقتراب من الشجرة الملعونة المضمرة بتجرد النفس بالغرور والجهل في الارتهان لطبيعة (الشر في دلالة الانقياد لشيطان الهوى) وتقييده بالائتمان على جنة الأرض في سياق اقترانه بعقد الأبوة الإنسانية وفيه كل الأبناء بموازاة تمكينه من حرية الاختبار والاختيار الموجه بتضمين استحقاق البقاء في الجنة للتخلق بمنهج العلاقة الارتباطية بثوابت وجوده في توحيده بمخلوقاته أو الانحراف عنها للضد والسقوط في أبدية الشقاء..

وبحكم التلازم بين اقتران الأب بتسلسل النسل في الأبناء فصلة الائتمان كان له حكم تقييد العقل بالمعرفة الموجهة لتأسيس العلاقة الشرطية في الاختبار والخيار على تجسيد وحدة الضمير الإنساني في الأبوة  كأساس لتوثيق عقد الالتزام بالأمانة بتمثيل الحق الإلهي  في  توجيه وتصريف شئون الخلق وتجسيد عدالته فيهم ..

وعلى ذات السياق فقد تلازم عصيان الأب في الانقياد لشيطان النفس والتجرد بالغرور الموجه بالتحول من المعرفة إلى الجهل مع ثبوت الخطيئة عليه بتسلسلها في الأبناء حكماً استقام على تجسيد الشر في التفكك والصراع المتجذر عبر العصور المتلاحقة  صلة بتنامي واتساع مظاهر الجهل والتخلف والفقر والمرض والظلم  والقهر في  واقع الإنسان والحياة..

 وكون الائتمان على الجنة ارتبط بإطلاق حرية العقل في الاختيار فموضوعيته  تدور حول المنهج الذي يحكم منظومة العلاقات والروابط الإنسانية بتسلسل قضاياها المترابطة مع تقييد كل منهج بمقاصد وأحكام وضوابط التعايش الأخلاقي في الحياة والذي انحرف به العقل الديني في سياق تضليل العلاقة الشرطية بالإله بالعبودية المفرغة بتغييبه في التبعية للوسائط وتماهي تعطيل المنهج في الإدانة والخضوع لسلطات الحكم..

وبحكم اقتران العقل المؤتمن بالمنهج  فقد تلازم  هذا الاقتران مع تفرع المناهج الفكرية بتوثيق العلوم والمعارف المتصلة بمنظومة العلاقات الارتباطية بمشروع الحياة بصفة العقول (كالعقل السياسي والاقتصادي والاجتماعي والعلمي بمختلف اتجاهاته) والتي شكلت بدورها مفارقات التأثير في تطور الشعوب والأمم..

المرتبة الرابعة: العقل المعاشي(الوظيفي)

وهو عقل العلاقة المزدوجة بين تقييد روابط المجتمع بمقومات الحياة  ومقاصدها في توجيه التنشئة المعرفية المنبثقة عن العقل المنهجي والمتصل ببناء الإنسان وتنمية قدراته وتوسيع مداركه واتجاهاته العملية لكسب العيش المتسق مع ضرورة تقييد المنهج التعليمي بالمناهج السالفة الذكر كركيزة لتقويم سلوكياته بما يتوافق مع انضباط علاقاته مع المجتمع المركب بتسلسل مكوناته المتعامدة مع  تأسيس التوازن لهدف الارتقاء بحياة الفرد والمجتمع إلى جادة الأمان والاستقرار في الحياة ..

 وباعتبار العقل المعاشي متصل بتصنيف جميع الوظائف العملية الموجهة لاستيعاب مجمل مفاصل الحياة  باختلاف مقاييسها في تمثيل طبيعة الأداء فموضوعيته أيضاً تحتكم لمفارقات التمايز في القدرة  والاتجاه المعرفي والعملي  والذي يقترض أن يلتقي مع منهجية وخطط الدولة واتجاهاتها لسد حاجة المجتمع في السياق المفترض لتوجيه وتمكين وضع الرجل المناسب في  المكان المناسب..

وبمقتضى تصنيف المراتب نستخلص في موضوعيتها ما يؤسس ارتباط هذه العقول بتكوين الإنسان المزدوج بين تجسيد وحدة الجسم(المادي) لعناصر الطبيعة الكونية بوظائفها العضوية كمنظومة لتوافقات البناء وبين تقييد(الروح) بالكيان الفكري الذي يحكم طبيعته وسلوكه وحضوره في رحلة الحياة  ..

 وكون الإنسان مخلوق على طبيعة الارتباط بالحالتين فمحور العلاقة بينهما ركيزته في تمثيل انضباط معادلة البناء حكم اقتران الفكر المنهجي بمقاصد العقل الهيولي في التحقق بالقدرة على التحكم والسيطرة على الأفكار التي تحكم سيكولوجية الطبيعة الحيوانية للنفس بخاصية اقتران العقل المعاشي بروابط العقل المادي لمقومات الحياة صلة بتجسيد توافقاتهما لانتظام علاقات الكيان  المزدوج مع المحيط..

من هنا كان لتأسيس اقتران الإنسان بصفة العاقل ركيزة التحقق بالقدرة على السيطرة النفس والتجرد عن الطبيعة الحيوانية بالصفة الإنسانية المتصلة بتقييده عقلاً موازياً للخالق في توحيد وجوده بمخلوقاته صلة ببناء كيانه الروحي بالقاعدة المنهجية لرباعية التكوين قرينة مصغرة لوحدة الوجود المساوي لانتظام طبيعة تكوينه مع تمثيل  روابطه وعلاقاته المتسلسلة  في الحياة..

وتلك إذا ما نظرنا إليها من زاوية الارتباط بسيكولوجية الذات فالمعالجة تنطلق من تضليل العقل لوحدة  البناء المتدرج في التشكل بما نقارب تسميته بطبقات العقل قياساً بتسلسل الترتيب والتركيب المعرفي والذي يتشكل على نسق التقييد المترابط بالوظائف حيث نستخلص تشريحها في تسع مكونات متطورة عن بعض في توثيق دلالاتها لتسلسل البناء وهي:

1_  العقل الغريزي: وهو قاعدة البناء والتكوين المزدوج بين تقييد النشاط الحيوي للجسم باحتياجاته الضرورية للبقاء المتسقة مع اختزال اللاوعي لمقاصد الارتباط بمقومات الحياة وسبل انتظام طبيعتها كصلة بتمثيل وظائف النظام للمعرفة بقوانين الطبيعة المنضبطة على ضرورة عدم الاخلال بموازين النشاط وانعكاساته على تجسيد الخلل للأعراض المرضية والاضطراب ..

2_ العقل (الباطن) وهو امتداد اللاوعي الغريزي في تجسيد طبيعة النفس لروابطها بالوجود صلة بتمثيل النشاط الباطن لتحلل الغرائز إلى رغبات والرغبات إلى أهواء ومنها إلى طباع ثم إلى دوافع موجهه للإرادة بردود الأفعال الموازية لخصائص ونسب الاستيعاب. 

3_العقل (المتصل) وآليته الحواس والتي تؤسس ميزان التجربة العملية للنشاط المقنن بتقييد مؤثرات (اللاشعور) التراكمي إلى أحاسيس ومشاعر تختزل بدورها وسيلة التواصل مع الوجود كركيزة وظائفية تستحضرها المدارك الحسية في سياق توثيق المعقول والمحسوس للنظائر المخزونة قرائن قياسية لاستقراء وتشخيص طبيعة الظواهر..

4_ العقل (الخازن): وهو الذاكرة المرتبطة بالدماغ وتوابعه الوظيفية بوصفه سجل المعارف المكتسبة والمقيدة بتزاوج خلايا المخ بالمعقول والمحسوس المنظور بتوثيق فيزياء الفكر للصور والمفاهيم والدلالات والأشكال والألوان والرموز والأعداد والأحداث والمقاصد والعلاقات كقاعدة بيانات معلوماتية يختزل نشاطها تشكيل خارطة المخ العصبية المتصلة بمنافذ التفاعل المترابط .

5_ العقل(الناطق) وهو وعي الترجمة والتوثيق اللغوي والمعرفي للنظائر المخزونة في الذاكرة والمعني بتوصيف دلالات الصور والرموز والمفاهيم والأشكال والأحجام والرموز والأعداد والتفاعلات والأحداث والمقاصد والأحكام والأسماء والصفات والأفعال واختزالها في الوعي الذهني مرجعية للمعرفة والتواصل..

6_  العقل(الموجه)وهو مركز القياد والتوجيه المعلل باختزال مؤشرات الطاقة المخزونة لطبيعة الأفكار وتحللها إلى صفات روحية لها مناط القدرة على التأثير في تقويم سيكولوجية النفس  حيث تستقيم مرجعيته كميزان للترجيح بين قراءات الفكر السائد واتجاهات الإرادة الذاتية صلة بتمثيل الضمير الموازي لقاعدة العلاقات المشتركة..

7_ العقل (المفكر) وهو آلية النقاش الذاتي والبحث والاسترجاع والقياس والتحليل والمقارنة والمقاربة والاستنتاج والتوليد المقنن  بأرجحية التراكم المعرفي وتوافقاته المتصلة باستيعاب  تلاقح الأفكار لمكونات العقول كصلة وصل باستخلاص النتائج..

8_ العقل (التنفيذي) وهو عقل السلوك والتجربة العملية المقنن باختزال الجسم المادي لمقدرات الطاقة الروحية للفكر الموجِه للأداء نحو تمثيل النشاط الحركي للمقاصد الوفاقية مع منظومة العلاقات والروابط المشتركة كقاعدة معرفية للحضور والتفاعل المنضبط مع سبل التمكين..

9_العقل (المستنير) وهو العقل المتطور عن سعة المعرفة والتأملات الاستكشافية لخفايا الوجود وأسراره وعلاقاته  وأطواره واختزال معاييرها قراءات وأحكام واستنتاجات ثابته باليقين المعرفي المتجرد عن الشك والاحتمال الظني بالتمييز المرجح  باستيعاب ثوابت الفكر ومتغيراته والذي يجسد بدوره مناط التميز الخاص لدى الصفوة المحدودة والمقنن بتجسيد توافقات الصفات للشفافية المجردة في صورة القدرة على الخلق والإبداع واستكشاف الأبعاد ومعالجة القضايا المعقدة صلة باقتران العائد في انعكاس تأثيرها على تطور الواقع..

ومنظورنا لتصنيف طبقات العقل ينطلق من حيثية القياس بتكوين الإنسان باعتباره يجسد الكيان المصغر لأنطولوجيا الوجود في موازين البناء المتداخل والذي نراه أشبه بمنظومة مصنعية مركبة تختزل مكوناته عناصر الطبيعة الكونية بقوانينها المقننة بتفعيل أدوات التكوين للوظائف والتي تنفرد كل منها بتمثيل مقوماتها الخاصة لطبيعة الأداء قرينة سيكولوجية باطنة تنتهي عند تجسيد الوعي الحسي لمفارقات الاتجاه المعرفي في توجيه الوعي الذهني لاستيعاب النظائر..

ولذلك اقترن تعدد واختلاف طبيعة وسمات وقدرات واتجاهات البشر بمفارقات بنية تكوين الفكر الذي يتشكل بمفاهيمه ومعارفه وقضاياه كل فرد ويختزل انطباعاته في النفس سيكولوجية باطنة تحكم قراءاته وتفكيره وعلاقاته وتطلعاته ورؤيته للوجود والحياة ..

وكنتاج لطبيعة التكوين المتباين فكل منا يرى الوجود بذهنية ما دونت ذاكرته المعرفية عن دلالاته من قراءات وتفاعلات يختزلها الدماغ بخصائص انعكاس الأثر بيانات معلوماتية عشوائية مقننة بتقييد النشاط الفيزيائي لسماتها المعقولة والمحسوسة قرائن مجسدة للحواس بمضامينها في الصور والأشكال والظواهر  والتفاعلات والأحداث والانطباعات شواهد معرفية  ..

كما أن لهذه الحيثيات في تفسير ديناميكية العلاقة الارتباطية بين الإنسان وأنطولوجيا الوجود ما يلخص المعادلة الانعكاسية للتناسخ الطبيعي في اقتران عالم كل فرد بمفارقات التشكل الموازي لتقييد سمات واتجاه موازين البناء كمظاهر منفردة بمنسوب القدرة على الاستيعاب الموازي لخصوصية التعاطي مع المشكلات والظروف والأزمات والأحداث والتجارب والعلاقات والتي غالباً ما تبدوا واضحة في اختلاف صفات وأخلاق النماذج المختلفة من البشر وقدرتهم على التفاعل مع العالم الخارجي ..

وفي ذلك ما يصل بنا إلى أن الجسم المادي للإنسان لا يمثل سوى الآلة المتحركة وفق برمجية الفكر للنطاق المحدود بالسيطرة على سلوكه واتجاهاته في توجيه طبيعة الأداء والتي تتجلى بوضوح من خلال مفارقات التكوين المعرفي المستقيم والمتناقض بين شخوص تحكمهم فكرة المال والسلطة والمصالح والأهواء والرغبات وحب التفرد والاستئثار بمحاذيرها في الارتهان للشر وتبعاته وغيرهم تحكمهم النزعات العقائدية والسياسية والفكرية بمتناقضاتها المتشابكة في دوائر الصراع  وآخرين تحكمهم  قيم الشراكة الأخلاقية في الحياة بالقناعة والرضا وحب الخير للجميع وعلى ذلك يتعدد القياس ..

من هنا فأن مجازية اقتران الإنسان بصفة العاقل لا تقاس بكونه كيان  متميز عن غيره من المخلوقات النوعية في استيعابه لنطاق الفكر الذي يتشكل بطبيعته وعياً يحكم إرادته واتجاهاته في الحياة   وإنما لكون الخصوصية في تقييده بالصفة لها حكم الاستثناء المرجح بتجسيد الروح لمقاصد العلاقات والروابط الأخلاقية كقاعدة للعقل   تختزل طبيعتها سمات القدرة الموجهة للانضباط بطبيعة الإدراك  والتمييز الفاصل بين الخير والشر  والعلم والجهل  والخطأ والصواب والصدق والكذب كموازين  للتفاعل والتواصل والحضور والأداء  الموازي لانتظام علاقاته المتسلسلة في تركيبة الوجود الواحد..

وهو الدليل الذي يعلل اختزال الإنسان للمعرفة الموازية للكون بمساراته وقوانينه في منظومة تكوينه (المادي والروحي) والتي تحتكم بالضرورة لبناء وتفعيل القوى الذهنية والحسية الباطنة وتعزيز قدرتها على تجسيد الأبعاد القياسية للحواس الغير مفعلة والمجردة بالحاسة السادسة والسابعة إلى العاشرة بحكم اقتران كل حاسة بمستوى البعد النمطي لامتدادها بحيث تتشكل كقدرات أو ملكات روحية متصلة بمنافذ العقل وأدواته المقننة (بالذاكرة والذكاء والبديهية والخاطر والتفكير والخيال والتصور) والتي تختزل بمجملها وظيفة التشخيص المعرفي للنظائر المخزونة في الدماغ الموازية لتركيبة المعقول والمحسوس الكوني بعناصره وتحولاته ..

 وتلك بدورها ترتكز على حصيلة التجربة الذاتية في تعزيز مقدرات النطاق الضوئي للخيال الحسي المحمول على تحرير القدرات الذهنية والحسية من قيود وحواجز الفكر المتداخل في صور الاستيعاب السطحي والمحدود للإدراك والذي يستحيل من خلاله قراءة العمق الباطن للأفكار دون الارتقاء بالطاقة الروحية للحواس الى مستوى الشفافية المقترنة بالأبعاد..

وبمقياس تصور البعض لقصور الحواس وعجزها عن قراءة الأبعاد الماورائية ومن ثم وصفها بالخادعة فهذا المنظور في رأينا لا شك أنه ينطلق من تقييدها في الحدود القياسية لقدراتها على قراءة البعد الظاهر المقترن بمحدودية التكوين النسبي الموازي لقصور الإدراك دون النظر إلى أن قدرتها تكمن في طاقات الفكر الذي تختزله الذاكرة المعرفية منظومة بناء مترابط من تقييد اللاشعور بمقاصده وعلاقاته الارتباطية بالوجود قاعدة للنشاط الباطن إلى تجسيد توافقاته للأحاسيس والمشاعر  والانفعالات قرائن للوعي الحسي بطبيعته  المتصلة باقتران كل حاسة بالبعد الموازي لامتداد الباطن بالظاهر ..

وهو ما نعني به بأن لكل حاسة بعدها الخاص المتمثل باقتران البصر بنفاذ البصيرة  والخيال الواسع والطعم بالذوق المتنوع والشم بحاسة الانجذاب للنظائر والسمع بتمييز  تناغم وطبيعة الأصوات واستيعاب ما يدور في الأبعاد والاحساس بطاقة الاستشعار الحسي وتلك مع تنامي قواها الباطنة تتحد في الروح في صورة الملكات والمتعارف عليها في توصيف بعض القدرات الخاصة بمصطلحات (التليباثي والاستشعار والاستبصار والوحي والتنبؤ والاستنارة) وغيرها من ملكات الفكر التي  تنحصر بين القلة من المتميزين    ..

وباعتبار ما يعنينا في متناول المعالجة هو كيفية الوصول للمعرفة الصحيحة فتلك الملكات تعتبر بمثابة القوى الروحية الموجهة للعقل بطاقاتها الفكرية المقننة بمنسوب القدرة الموازية للاختصاص في طبيعة الكسب المحدود للقيمة فيما تؤسس الاستنارة  أعلى مراتب الملكات الروحية في التحقق  المعرفي  واستكشاف الأبعاد..

 ويأتي ذلك باعتبار مرجعية الاستنارة لطبيعة الارتباط بصفة (النور) بوصفه القوة البينية لفيزياء الفكر المجسد بصيغة الطاقة الضوئية للخيال الكاشف للحقائق بمدى قدرته على اختراق الحواجز والأبعاد واحتواء مساحة الظلام المحيط بالمجال الباطن والظاهر لتداخل الأفكار بالظواهر كمعيار لاقتران المعرفة بتقييد الشيء بالنطاق الحسي لدلالاته القياسية الواضحة ..

وبديهية الاستدلال على ذلك معلوم بأن قراءتنا لحركة ونشاط الوجود الظاهر يستحيل إدراكه أو قياسه دون تمثيل النطاق الضوئي لوسيلة الاستكشاف والتشخيص المعلوم بقرائنه ودلالاته  وعلى ذات النسق تختزل الدماغ البشرية فيزياء الفكر بطاقاته المحسوسة والمعقولة كصيغة نسبية موازية للنطاق الضوئي في تجسيد المدارك للوعي بالقرائن والتي تؤسس بدورها نمط وحدود القدرة على الاستكشاف الباطن  والتي يستقيم بجدواها اقتران الذات بالصفة المعرفية المتلازمة مع توثيق التجربة العملية للارتقاء بالمجتهد إلى التميز بالملكة الروحية الموجهة للتفاعل والأداء بخاصية وحجم الاستيعاب  المعرفي لطبيعة الحضور  والتأثير في المحيط..

والأمثلة على ذلك كثيرة منها على سبيل الاستدلال تجربة لامستها عن قرب مع أحدى الشخصيات الاستثنائية وهو المفكر والشاعر اليمني المبصر الأعمى الاستاذ عبدالله البردوني والذي كنت منذ ريعان الشباب أحد المعجبين  بشعره وكتاباته الفكرية في النقد السياسي والأدبي فيما لم ألتقي به سوى بضع مرات في لقاءات عابرة تلتها بعض الزيارات الخاصة للاستفادة وقضت الظروف  أن لا نلتقي لفترة تتجاوز الخمس سنوات بعدها التقيت به يوماً بمحض الصدفة وهو يسير في الشارع ومعه رجلٌ يقوده وكنت حينها اتجول برفقة شخص من محبيه حيث طلب مني أن ألتزم الصمت معه لاختبار ذاكرته فاقتربنا منه بهدوء ومددنا أيدينا لمصافحته دون التعريف بأنفسنا فإذا بالرجل يخاطبنا بالاسم بمجرد تلامس الأيدي  ويبدي بعض العتاب حول الغياب عن مجلسه وزيارته فاسترعاني الخجل المزدوج بالذهول من سرعة البديهة فسألته بعدها كيف تعرفت علينا وأنت لا ترى فضحك وقال أنا حقاً أعمى البصر لكني أستشعر  بالقلب أحبتي بحس البصيرة..

 ومثله أيضاً يمكن القياس بالطبيب الماهر الذي يتميز بالقدرة على تشخيص حالة المرضى بمجرد النظر للعينيين أو الملامح الظاهرة كصلة باختزال التجربة العملية لمقاييس الحالات المرضية ومتابعة تطوراتها وتقييدها في الذاكرة  مقاربات قياسية للاستنتاج المباشر..

وباعتبار تلك الظواهر وغيرها تندرج ضمن قدرات العقل فمرتكزات البناء السليم لها حكم الارتباط بوظائفه المتصلة بتأسيس معرفة الخير والشر بمناط التكليف الموجه لاستيعاب  قاعدة العقل منهجاً عملياً للتواصل والتفاعل المشترك في الحياة..

قاعدة العقل

قد لا يكون هنالك من شك أن لكل قضية من قضايا الوجود والحياة قاعدتها المنهجية التي تحكم اتجاهاتها المعرفية بمقاصدها الاعتبارية  والعملية المتسقة مع تأسيس روابط وعلاقات الإنسان المتدرجة من بناء وتقويم سيكولوجية الفرد إلى تقييد المجتمع بالقيم الوفاقية للتعايش المنظوم على تمثيل الشراكة المنضبطة في الحياة..

وباعتبار أن كل منهج  كان له حكم الاقتران بصفة العقل المتلازم مع تقييد وتوجيه مرتكزاته الفكرية لسلوك المجتمع بتوافقاته فصلة تحقق الإنسان بالصفة له أيضاً حكم الامتداد بتجسيده لوحدة العقول المتدرجة في تمثيل علاقاته المركبة بمنظومة الوجود والحياة  والتي تستوجب أن  يحيط بقواعدها المنهجية في استيعاب القيمة المجملة بتقييد سلوك الفرد والمجتمع بتوافقات العقل الجمعي كضابط لانتظام سُبل ومقاصد علاقات الحياة..

وفي ضوء ذلك فنحن حين نولي اهتمامنا بدراسة العقل فنحن بذلك نعتمد تأسيس القاعدة المنهجية للبحث عن صفة تمثيله لعلاقات وروابط الفرد بالمجتمع في استيعاب وتوجيه وظائفه المتسلسلة من تقويم سيكولوجية النفس إلى تجسيد حضوره وتفاعله وتعاملاته مع حركة الوجود والحياة ..

وعلى ذات السياق حين نبحث في القضايا المعرفية بمعضلاتها المستعصيةعلى استيعاب العقل لمعادلة الوجود والحياة فنحن كما تستدعي الضرورة أن نُعمل عقولنا في المحاولة قل أن نستدرك ارتباط الإشكال بتقييد معالجات البحث بقاعدة العقل المتناقض بخلافاته المتشابكة صلة بتوجيه قدراته لاستكشاف الوسائل والمقاصد الارتباطية بعلاقاته المتعارضة المتسقة مع  تعزيز  الانحراف بمنهجية الحياة..

وحين تحكمنا فرضية الاستدلال أن نسترشد بواقع التباين والخلاف المعرفي فسنجدها ظلت عائمة بين شتات الفكر  الديني والسياسي ومتاهة التأصيل والتنظيروالانقسام المتجذر من تفكيك الهوية الإنسانية إلى الهوية الجغرافوسياسية والدينية والتي جسدت خارطة العقل بالاستثناء التبعي المقيد بانطباع الفهم بمتلازمات الخصوصية المعرفية والعقائدية والثقافية المتعارضة في  ساحة الصراع ..

وباعتبار مسألة اقتران الإنسان بصفة العقل ارتبطت بخاصية التميز  بالمعرفة دون سائر المخلوقات النوعية فصحة المعرفة يستوجب أن تكون بمجمل قضاياها ثابتة على تأسيس وحدة قاعدته المنهجية لعقد الوفاق المنضبط على انتظام علاقاته المتسلسلة مع تجسيد الشراكة  الأخلاقية  للتعايش  الآمن في الحياة.. 

 وفي حين تلتقي مختلف العقائد الدينية والمدارس الفكرية والسياسية والعلمية على توثيق منظومة القيم والأخلاق كمبادئ ثابتة لقاعدة العقل إلا أن وعي الصراع الفكري بتداخلاته مع تمثيل المصالح غالباً ما نجده يستثني الوفاق  في تفسير المبادئ بتجزئتها لمعايير الخصوصية العقائدية والثقافية والمعرفية التي تؤصلها النصوص والمفاهيم النظرية على قاعدة الاحتواء..

فالأديان مثلاً بمختلف اتجاهاتها قد تلتقي على تأسيس مبادئ الحرية والعدالة والسلام  والأمان كثوابت مرجعية  تستمد دلالاتها الاعتبارية من توافقها على تقييدها بصفات الربوبية إلا أن  قراءتها  تختلف في توصيف النصوص والشرائع الدينية للجزئيات التي تحكم مسار التعايش مع الآخر بخصوصية  الاحتواء ..

 وفي حين تخطت الاتجاهات العلمانية المعاصرة بعض متلازمات الإشكال في تحرير القيم  من قيود الدين بين شعوبها نجدها في الاتجاه الآخر تلتزم النقيض في استخدامها مع الشعوب والأمم الأخرى صلة بتطويقها في نطاق المصالح والسياسات والأهداف  الفاصلة بين استحقاق  الإنسانية الواحدة.. 

وبديهية الاستدلال في تشخيص المسألة أن  قاعدة العقل ظلت عبر حركة التاريخ  شبه مغيبة بين تعارف الوفاق البشري على ثبوت صلاحيتها وبين تصدر المصالح الرأسية لتعطيلها والانحراف بها نحو تقييد المناهج بازدواجية المعايير الموجهة بتطبيع السياسات لمنهجية التفكك والصراع قاعدة كونية مفرغة بتأسيس تداخل الخير بالشر مرجعية لتأصيل فرضية التناقض.. 

وعلى هامش التأثير المزدوج كثيراً ما نجد بعض الساسة والمثقفين في عصرنا الحديث يبررون لتهميش القيم بوصفها بالطوباوية الغير قابلة للتمكين انطلاقاً من تقييد منهجية الصراع بروافد التطور الحضاري دون النظر إلى تبعاته والتي بلغت من امتهان كرامة الإنسان واستلاب حقوقه المشروعة أعلى مراتب السقوط الأخلاقي ناهيك عما وصلت إليه من تدمير لمقومات الطبيعة الكونية وتجسيد الخطر  لنهاية الحياة على الكوكب الذي يحتوينا وتحكمنا قوانين وجوده..

وما نخلص إليه عن تلك المقدمات هو أن لقاعدة العقل مسوغاتها في تشخيص الفكر لطبيعة العلاقة الارتباطية بين الإنسان ومنظومة الوجود صلة باقتران القاعدة الكونية بتوافقات وحدة البناء المنظوم على تأسيس مقاصد الخير للغاية المضمرة بجنة السعادة الأبدية واقتران الفكر البشري بالانحراف الموجه بطبيعة الارتهان لتطلعات النفس وغرورها المتجرد بالجهل والنقص والشر  والتناقض مسلكاً للعذاب والشقاء..

وهنا حين نستشعر الأهمية التي تمثلها قاعدة العقل فنحن بذلك نسترجع المعطى الزمني للقيم التي وضعت الإنسان في محك الاختبار وجاز بمقتضى انحرافه عنها ما يستوجب تقويم النتاج العشوائي كضرورة لإعادة بناء العقل على قاعدة صحيحة تحكم إنسانيتنا بأخلاقيات التعايش المتوازن على الوفاق والتكامل الموجه لتمكين الاستحقاق المشترك من الوصول لحياة آمنة ومستقرة ..

ولذلك كانت القيم في الفكر الإنساني هي دين الحياة بوصفها قاعدة الائتمان الإلهي للإنسان التي تقيم حاكمية العقل على تأسيس موازين الشراكة الروحية في الوجود الواحد  كمنظومة ضابطة لتوافقات البناء..

 ودلالة القيمة في التعريف اللغوي هي(المقدار أو الثمن)واصطلاحاً هي: ما يقّوم به الشي كالقول(قيمة المرء ما يحسنه) وبارتباطها بمفهوم البناء كما يمكن توصيفها بمجموع المقاصد العليا التي يلتقي حولها الناس كمقومات  أخلاقية وعملية للتفاعل المنضبط في الحياة ..

وخاصية القيمة في دلالة البناء لها معنى تحقق المنفعة والعائد المعنوي للظاهرة المادية أو الاخلاقية كقرائن منظورة بتمثيل الجدوى في توثيق طبيعتها لمضمون الفكرة في الواقع كركيزة لتخلق الشخوص بسماتها كفضائل روحية لها حكم اقتران الأثر بالارتقاء بملكاتهم الابداعية إلى مستوى القدرة على التأثير والتمكين في تجسيد  تفاعلاتهم لوحدة الروابط الإنسانية..

ولذلك فنحن نحكم على أخلاق وتحضُر أو تخلف الأمم والشعوب وسلوك الأديان والسياسات والأفراد أيضاً من قيمها وحين تحكمنا إشكالية الواقع بتجاربه الزمنية وصراعاته الدينية والسياسية والاجتماعية نجدها وثيقة الارتباط بسقوط القيم وتحللها في الفكر العشوائي بحيث تتصدر مسلكية الانحراف عن ثوابتها معظم المواقف والأحداث والمعوقات كمقوم للتفكك والتشظي والصراع وتوطين النزعات والسلوكيات الهابطة في كل مجتمع بامتداد علاقاتها الاستثنائية بالشعوب الأخرى..

وهو الأمر الذي أرسى واقع الحياة وتحولاتها الزمنية على تحلل القيم إلى الضد شمولاً باتساع دوائر الشر عنها نتاجاً طبيعياً للفصام الأخلاقي والمعرفي المتلازم مع التنشئة العشوائية والمتباينة والتي حكمت تجسيد النفس البشرية للطبيعة الحيوانية بسماتها الارتباطية لقوانين الغاب منهج حياة..

وكما عرف الإنسان دلالات القيم الروحية من تأملاته في الوجود وتجاربه في الحياة فقد ترجم لقضاياها العديد من الفلاسفة والحكماء والمفكرين والباحثين والكتاب والشعراء عبر مراحل التدرج المعرفي حيث شكلت ملتقى الوفاق البشري على توثيقها مُثل عليا للسمو بالفضائل الروحية على بساطها تدرج الإنسان في استكشاف معنى وجوده في الحياة واستلهم من معانيها دليل انتظام روابطه وعلاقاته بالوجود..

 ورغم أنها ترافقت مع تأسيس الفكر الديني لمقاصدها قاعدة لاهوتية وشكلت بمعيته جسور التواصل المعرفي بين الحضارات المتعاقبة في حركة التاريخ إلا أن وعي الإنسان بها ظل محكوماً بالتوظيف التبعي المتجانس باستفراغها بمعطيات الواقع ..

وبغض النظر عن الأسباب التي فرضت  عدم تمكينها إلا أن فضلها في التجارب الإنسانية أنها شكلت خلاصة المعرفة المستقيمة 

بحيث تؤسس محور العلوم الكونية والمعارف الإنسانية بمجمل تصنيفاتها المحمولة على توثيق مفاهيمها الكلية لأسس البناء  واتجاهاته المتفرعة بتصفيف علاقات وروابط الإنسان بالوجود بمقوماتها الأخلاقية ودلالاتها الروحية واختزال أحكامها للضوابط الاعتبارية قاعدة معرفية لانتظام وجوده في الحياة بامتداد تجسيد الأداء لمقومات القدرة على التمكين ..

والقضية من حيث استخلاص النتاج الزمني لتحلل القيم أن صلتها بالواقع رغم أنها تبلورت في الاتجاه المعرفي العام قرائن ثابتة للوفاق إلا أنها وقفت خلف دائرة التطبيق والالتزام تسوسها النزعات البشرية بمنطق التسطيح والادعاء قاعدة تفاضلية للفصام الفكري والأخلاقي اختزلت جوهر المعنى بالتوظيف المحوري للمفاهيم السطحية وتسويقها من خلال تعزيز محاذير التفكك العائم في أيقونة المصالح وتضاريس الهوية الاجتماعية والعقائدية والسياسية وغيرها من عوامل التشظي والانقسام..

وما يؤكد هذا أن الوعي البشري رغم اختلاف اتجاهاته الفكرية والعقائدية قل أن تجد فيه من لا يؤمن بالقيم والفضائل والأخلاق ركيزة جوهرية لقراءاته وأحكامه كمسلمات روحية تعارفت البشرية عليها في سياق الوفاق على مبادئ وقواعد وأحكام وضوابط التعايش المشترك في الحياة ، غير أن سمة التعاطي اختلفت مع بروز عوامل التفكك والخلاف والصراع واقتران مؤثراتهما بطبيعة التعصب ونزعاته الدونية في رفض الآخر ..

موازين العقل

نحن نعيش الحياة بعقدها وظروفها ومشاكلها وصراعاتها ومعوقاتها واقعاً مفترضاً قل أن نستدرك في خلفيتها قصور العقل عن استيعاب أسس المعرفة بقضاياها صلة بتقييد الخلل في تكوين الفكر للحيلولة دون الوصول للحلول والمعالجات الممكنة ..

وتلك في تشخيصنا للخلل في الفكر قياسه في اقتران العقل بوظيفة التمييز موازين دلالاتها في تقييد الوعي بحركة الوجود والحياة متناقضات المعرفة بمقاصد وأحكام المعاملات المحمولة على توثيق الاختبار والخيار لمعايير الانضباط أو الانحراف المقنن بتمثيل مفارقات الاستيعاب لاتجاهات الأداء والسلوك..

وفيما تؤسس هذه الموازين آلية القياس والتمييز العقلي تختزل مقاصدها الاعتبارية صفة الدليل الموجه لاستيعاب الإنسان لروابطه وعلاقاته بالوجود المركب  والتي نستخلصها في الآتي:

أولاً: ميزان الخير والشر

وهي أصل المعرفة بحركة الوجود والحياة المرجحة بتأسيس مقاصد الخير لقاعدة العقل قرينة لعقل الخالق في تصريف قدرته لمنظومة البناء واقتران النقيض لها بطبيعة الشر الموجه للهدم بحكم ارتباطه بالنفس البشرية المتجردة بنزعة (الأنا) في حب التفرد والاستحواذ ولوجاً بشيطنة الحياة..

وطبيعة المعرفة بالخير والشر هي كما تؤسس مرجعيتها أهم موازين العقل فحكمها ثابت في تجسيد الإنسان والحياة لطبيعتها المتضادة والتي صاغت عقدتها إشكالية العصور المتعاقبة في تقييد الواقع بمعضلاتها المتصاعدة كالصحة والمرض والأمان والخوف والغنى والفقر والعدل والظلم والتعايش والصراع  بتبعاتها المتجذرة نحو تمكين مظاهر الشر من السيطرة على منافذ الحياة..

وكما تتضح متناقضات الخير والشر في تجسيد مفارقات الوعي البشري لطبيعة تكوين سيكولوجية الإنسان باتجاهاته في تمثيل علاقاته المرُكَّبة والمضللة في السياق العام بواقع انعدام التوان النفسي والاجتماعي فمقتضى تأسيس المعرفة بتوازناتها له حكم تحقق العقل بمستوى القدرة على استيعاب شواهدها القياسية في تركيبة الفرد والمجتمع صلة بتجسيد الحضور والأداء لانعكاس العائد على  تشكيل طبيعة الواقع  وتقييد الجدوى بميزان الوفاق  أو الانحراف في توجيه منظومة العلاقات..

من هنا يؤسس ميزان الخير والشر الركيزة الأساس لبقية الموازين من حيث كونها تمثل الدليل والغاية والتي يستوجب توثيق مقاييسها للتجارب الزمنية بعواملها المتدرجة من الاختلاف إلى الخلاف إلى التفكك والصراع إلى تبعاتهما المتجذرة في صياغة تشابك الواقع بجميع إشكالاته..

ثانياً: ميزان الثابت والمتغير في الفكر

قد تختلف تصورات البشر للثابت والمتغير في الفكر باختلاف منسوب الوعي والثقافة التقليدية التي تشكلت بطبيعة التجربة الارتباطية بالواقع واتجاهاتها العملية في قراءة وتصنيف المعرفة البشرية للمسلمات المتباينة كحقائق سندها تعارف المجتمع الحصري على تقييدها بالثوابت ..

وميزان الثابت والمتغير هو ما يؤسس المقارنة بما تلتقي عليه البشرية على قاعدة الإجماع حول ثبوت صحة الفكر  بمفاهيمه الكلية قرائن معرفية للاستدلال على الحقائق من توافقاتها الشرطية مع الجدوى الاعتبارية للعائد منها قياساً بمتغيراته الخلافية المحمولة على تأسيس الاحتمال النظري قاعدة للتوظيف المتعارض بتبعاته في الاحتكام للتفكك والصراع..

مثل ذلك على سبيل المقارنة ما تلتقي عليه جميع الديانات بمختلف معتقداتها حول تأسيس مفهوم الألوهة قاعدة كونية للخلق المحمول على توظيف مرجعيتها العقائدية للوصاية على الإنسان في تقرير منهج الحياة  فيما اختلفت في تصنيف الثابت الإلهي  بالمتغير في الظواهر ثم الوسائط والبدائل النصية مفترقاً لانحراف كل دين بخصوصيته المعرفية عرفُ تقليدٌ متجانس استحكمت تعارضاته بتوثيق التناقض قاعدة للصراع..

 وعنها لو سألت رجال الدين في كل ملة عن حقيقة الإله الذي يؤمن بحقيقة وجوده كمسلم ثابت للدين لأجابك كل منهم بلسان التجرد بقدسية  النص الذي نسب إلى ربوبيته وتشكل بفكره  المتغير قاعدة التزام لا يرى في تناقضاته سوى حكم اليقين الثابت..

وعلى ذات السياق  كثيراً ما نجد الأديان والنظم السياسية  تلتقي بشكل عام على كثير من القضايا المتأرجحة بين الثابت والمتغير في ملتقى التوظيف ومنها الوفاق على تشخيص العدالة والمساوة في الحقوق والواجبات بالاستحقاق الثابت المحمول على تصدير ما تجيزه اقاعدة المساواه المفترضة كما تعللها المقولة  (الناس سواسية كأسنان المشط) قراءة متجانسة للتجرد بروح الإنسانية الواحدة..  بيد أن هذا الوفاق يتماهى في تجسيد الواقع للفكر المتغير بتوظيف الفوارق العقائدية والطبقية والعنصرية والعرقية والسلالية المتجذرة وغيرها من المفاهيم الدارجة في تقييد متناقضات الواقع  بصراع الاستحقاق..

من هنا يؤسس القياس العقلي بين الثابت والمتغير ميزان الفصل بين ثوابت الفكر ومتغيراته المتداخلة بين تصويب الاجماع للحقائق والمقاصد الكلية وبين تفكيكها العارض باستحكام الأسباب صلة باستيعاب وحدة الفكر في الغاية قاعدة للمعرفة بجذور وملابسات القضايا التي فرضت إشكاليتها تطويق العقل بالقيود المانعة للإدراك..

ثالثاً: ميزان العلم والجهل

حين نضع الإنسان والحياة في ميزان العلم والجهل فنحن بذلك نؤسس القياس بانعكاس كلٍ منها على مستوى تطور أو تخلف  الشعوب  سواءٌ في الاتجاه المتعامد مع  تأرجح الحضارات الزمنية بين الصعود والهبوط أو من خلال تجسيد الواقع للإشكالات  المتعثرة بتضييق سبل الاستقرار في الحياة ..

وكما تؤسس قضايا العلم بميادينه المختلفة ركيزة بناء العقل كرافد للارتقاء بقدرات الإنسان في بناء الحياة يتسم الجهل  بأشكاله المتعددة بطبيعة الارتباط بحواجز الفهم المتجرد بالقناعة الذاتية وصكوكها الموجهة بتقييد الوعي في النطاق المحدود للاستيعاب ..

وميزان العلم والجهل قد يبدوا لنا واضحاً في القياس بمفارقات تكوين الشخوص واتجاهاتها والتي غالباً ما تظهر في شكل المستوى الثقافي والمكانة الوظيفية والتأثير في الأوساط فيما نجدها تختلف بين الشعوب المتخلفة عن الشعوب المتطورة من حيث ارتباط القدرة بالتمكين حيث نجد الجاهل في المجتمع المتخلف يرتقي على العالم في تبوء المكانة وامتلاك الثروة كنتاج للخلل المجسد في تركيبة النظام  وانعكاساته على تمكين الجاهل الموازي لرفض التعاطي مع العلم بشخوصه والذي بات محذوره قيداً على الشعوب في استحواذ اللصوص والفاسدين على مفاصل السلطة في السياق المتلازم مع توظيف التخلف قاعدة للسيطرة على المجتمع..

وهذا الميزان لا يقتصر على قياس تطور أو تخلف الشعوب والأفراد بقدر ما يشكل في الأساس ميزان الفكر البشري المتداخل بين مؤثرات الموروث الزمني ومستجدات المعرفة مقارنة بمدى انعكاسات كل منها على طبيعة الواقع..

مثل ذلك قياس مؤثرات الفكر الديني في تطبيع الأساطير والمعجزات والخوارق كمسلمات عقائدية بمدى تأثيرها على واقع الإنسان والحياة مقارنة بالكشوف العلمية وانعكاساتها على الارتقاء بوسائل الحياة ..

رابعاً: ميزان  الخطأ والصواب في الفكر

من البديهيات المتعارف عليها أن ليس هنالك كائن بشري لا يرى أنه كيان عاقل بمن فيهم المتخلفين عقلياً والمنحرفين  غير أن كل فرد لا يؤطر صورة العقل سوى في فهمه وما اختزلته ذاكرته ووعيه من مفاهيم وتصورات ،وقناعات متباينة قل أن يرى فيها غياب الدليل العلمي أو المعرفي الثابت في صحة قراءاته..

  تأتي هذه الفرضية باعتبار أن الإنسان هو الكائن الحيواني المتميز بقدراته العقلية على التفكير والتمييز بين الخطأ والصواب بخلاف سائر الأجناس النوعية، فهو وحده من بين المخلوقات الكونية صانع الحضارة والتاريخ والمستكشف المتفرد في السيطرة على الكون إن جاز بذلك تمثيل الاستثناء في التميز عن غيره من الكائنات الحية ..

من هنا يؤسس معيار الخطأ والصواب في الفكر  أحد الموازين القياسية  لتحليل ودراسة التجارب  البشرية بين ملتقى الوفاق الشرطي وانحرافاته والتي يستخلصها العقل من دلالات البناء والهدم بموازاة انعكاساتها على حياة ومصير الفرد والمجتمع.. 

وتلك  لها في دلالات القياس خمسة مظاهر هي:

 -الفكر السوي أو المستقيم (كمعيار للانتظام)  قياساً بالفكر المنحرف (كمعيار لعدم الانتظام)

-الفكر الخلافي(كمعيار للاحتمال النظري)قياساً بالحقائق الثابتة في معادلة الوجود(كمعيار للفهم الصحيح) 

-الفكر الملتبس (كمعيار لتقييد الخطأ صواباً والجهل معرفة) قياساً بالمعايير الثابتة باليقين 

-الفكر المتناقض(كمعيار للتضاد) قياساً بالفكر الوفاقي (كمعيار للانضباط)

-الفكر النسبي(كمعيار للقصور والنقص في قدرات العقل البشري) قياساً بالحقائق الثابتة(كمعيار للكمال)

ومنظورنا للتقسيم الآنف ينطلق من تصنيف موضوعية الفكر الذي يحكم وجودنا بمتناقضاته المتفرعة في تداخل الصواب بالخطأ والتي يفترض أن يستوعبها العقل كموازين للقياس والترجيح  فيما نستخلص تحليلها في الآتي:

 1-الفكر السوي قياساً بالفكر المنحرف

ويؤسس الفكر السوي صفة الاستقامة في التوصيف المعرفي المتسق مع تقييد منهجيته بوحدة البناء المعلوم في  توثيق التجارب الزمنية لمفهوم القيمة التي يثبت فيها شرط الوفاق على المقاصد والأحكام بحججها المثبتة في السياق المتلازم مع تأسيس جدواها للمنفعة الرافدة لانتظام علاقات وروابط الحياة ..

والفكر السوي لا تقتصر دلالاته على معادلة القيم وفضائل الأخلاق كمرتكزات ثابتة لمنظومة العلاقات باعتبار موضوعاته تتشكل في سياق تفاعل التجارب البشرية مع مجمل قضايا الحياة كالأعراف والتقاليد والنواميس والثقافات والمعارف النوعية بمختلف روافدها السليمة والتي تنتظم بدورها في تقييد الجدوى بالقيمة..

وللفكر السوي في جدوى تأسيس بناء الإنسان حكم تقييد النفس بمقاصد الوفاق مع قوانين الوجود والحياة وخلوها من الأعراض النفسية والصراع الباطن صلة بتقويم العقل لسيكولوجية الانضباط الموازي لانعكاساته على انتظام علاقات وروابط الفرد بالمجتمع صلة بتعزيز قدرات العقل للتحقق بالروافد المادية للاستقرار وتلك بمجملها لا تزال في طور النسبية الطفيفة على أرض الواقع ..

 والفكر السوي كميزان لاستيعاب الفكر المنحرف تحتكم قراءاته للقياس بالاتجاه العشوائي لتكوين النفس المقيدة بالرغبات والدوافع والتطلعات المتعثرة قرائن لتعزيز الاضطراب النفسي والقلق  والخوف من المجهول لطبيعة الهدم في انبعاث الأمراض العضوية عنها صلة بتجسيد انعدام التوازن لسيكولوجية  الشر في تمثيل علاقات وروابط الحياة فيما يضلله في السياق العام ما يتشكل به الواقع من فوارق طبقية وانقسامات وصراعات ومصالح متضاربة كنتاج لاختزال الوعي الجمعي لعوارضه المرضية وتطبع العامة بنوازعه وسلوكياته  تستحضرها عشوائية التشكل  المتناقض بين الشعوب بأمراضه الاجتماعية المتراكمة ..

2-الفكر الخلافي كمعيار للاحتمال  النظري قياساً بالحقائق الثابتة

وهو الفكر المتعدد باختلاف وجهات النظر حول قضايا الوجود والحياة المحمول على فرضية استيعاب معضلاتهما والموجه بمقاصد التوظيف المتعارض كالفكر العقائدي والسلطوي والفلسفي والعلم النظري والمعارف البشرية المتضاربة حول  تأسيس مشروع الحياة..

وتمييز العقل للصواب من الخطأ في الفكر الخلافي معلوم بموازنة الاحتمال النظري المتعدد بالحقائق الثابتة (كالإله الواحد والوجود الواحد والإنسان الواحد والغاية المشتركة في الحياة) والاستدلال بالنتاج الزمني لانعكاساته على حركة التاريخ بتبعاتها في اختلال موازين قيم التعايش في طبيعة الحياة..

وله في ميزان القياس بالنتاج المعرفي لاستكشاف وتطوير الوسائل والأدوات حكم اقترانه بالمنفعة أو الضرر في توجيه مقاصده واتجاهاته للارتقاء بمقومات الحياة أو العكس في تجسيد النتاج لطبيعة الهدم المتعارض مع الحق البشري العام للأمان والاستقرار في  الوجود ..

3-الفكر الملتبس بتفييد الخطأ صواباً والجهل  معرفة قياساً بالمعايير الثابتة باليقين

 وموضوع الفكر الملتبس متعدد القرائن والشواهد المحمولة على تأسيس الباطل بالحق قاعدة معرفية ثابتة منها على سبيل المثال بعض المفاهيم التي اختزلها الإنسان عبرتحولات العصور قرائن استحقاق بانحراف مقاصدها كتجزئة الحق الإلهي في توظيف كل دين وملة للإدانة الشرطية في تبعيته المفرغة بتأصيل قداسة البدائل وتوظيف السياسة قاعدة نمطية للحكم كبديل للأخلاق والديمقراطية في عصرنا الحديث كإطار للحرية الموجهة بتأسيس الصراع الحزبي قاعدة للغلبة والتمكين وغيرها من المفاهيم التي تتقمص ثوب الحق وفي طبيعتها يتجسد الباطل ..

 ومن الفكر الملتبس في تقييد الجهل بصورة المعرفة ما يندرج ضمن الارتباط بالموروث الزمني كالاعتقاد بالأوهام الأساطير والخرافات والمعجزات والخوارق وامتداد مؤثراتها عبر العصور المتعاقبة دون استيعاب الإنسان لضرورة القياس باليقين المعرفي في تشخيص قوانين الطبيعة الكونية لمعايير الواقع..

وتلك بمقتضى تشخيص مواطن الالتباس في دلالاتها ما يؤسس اقتران الحق بالباطل والجهل بالمعرفة في تقييد القناعة لقصور العقل أو تغييبه عن استيعاب الآثار المترتبة عنها على مصير الإنسان والحياة .. فيما تستوجب الموازنة والقياس تمكين العقل من استيعاب الخطأ والصواب في ملابساتها مرتكزاً لتصحيح  الخلل في تركيبة الواقع بتبعاته..

4- الفكر المتناقض(كمعيار للتضارب) قياساً بالفكر الوفاقي (كمعيار للانضباط)

ودلالات الفكر المتناقض كثيرة ومتداخلة مع بقية التوصيفات غير أن مضامينها تختلف من حيث استيعاب العقل لمعاييرها المتشابكة في تشكيل نسق التضارب المتداخل كالتقاء الأديان على توصيف الإله بكمال القدرة والتنزيه من الجهل والنقص والشر في صفاته وأفعاله فيما يتماهى التنزيه والكمال عند شيطنته للحياة في تأسيس الصراع بينها قاعدة للانتصار لعجزه صلة بتجسيد المتناقضات  لعلة وجوده..

 وبديهية القياس بالفكر الوفاقي دليله ثابت باستيعاب الغاية من وجود الله والإنسان والحياة ركيزة معرفية بأسس وقواعد الوفاق البشري على تأسيس وحدة العلاقات الكونية كقاعدة منهجية لانتظام علاقات وروابط الحياة ..

6-الفكر النسبي (كمعيار  لمحدودية قدرات العقل البشري) قياساً بالحقائق الثابتة(كمعيار للكمال)

وهو الفكر الذي تستحضره في الاتجاه العام مجمل العلوم والمعارف الإنسانية كالفلسفة وعلم النفس والاجتماع والاقتصاد وعلوم الطبيعة وغيرها والتي لا تزال بمجملها تراوح في المقاربات النظرية والحلول النسبية وهو وإن درج في سياق الفكر الخلافي إلا أنه على خلاف الاتجاهات الآنفة الذكر يخضع لاعتبارات  جوهرية أهمها أنه ظل يسير على خط التدرج المعرفي في البناء الغير قابل للتأصيل الثابت باستثناء ما تحتكم موضوعاته  للمقاصد الاعتراضية في التوجيه..

ولذلك فهو يندرج ضمن معطيات الدراسة والبحث المرجح  بواقع انعكاسات تأثيره على كل محيط دون القياس بجدواه غير أن خطورته قد تستفحل حينما تتحول معطياته إلى قناعات ثابتة كما هو السائد في تأسيس مفهوم الحقيقة النسبية بمسوغاتها الجدلية لتبرير الواقع..

 وموضوعية القياس بين الخطأ والصواب في نتاجه يقتضي حتمية الموازنة بالمقاصد الشمولية لمنطلقات الفكر وأهدافه المتصلة بتأسيس وحدة الفكر في الغاية من تمثيله لقضايا الوجود والحياة ..

خامساً: ميزان الصدق والكذب

ويختص ميزان الصدق والكذب بالفكر المنسوب لمرجعية المبلغ الناطق بلسان معارفه والمحمول على توثيق حركة التاريخ للخلط المتشابك بتعدد واختلاف المناهج المعرفية واقترانها باستحقاق القدوة كمصداقية الرسل والأنبياء في مجازية التبليغ بالأمر الإلهي من عدمه قياساً بتأسيس المعرفة بوجوده  دليلاً شرطياً لاقتران التصديق بصحة الرسائل ومثل ذلك المجتهدين بتفسير فكرهم والناقلين عنهم أو المدونين لأقوالهم وسيرهم الذاتية كشهود إثبات على صحة ما جاءوا به..

وميزان الصدق والكذب رغم أنه يؤسس لمراجعة حركة التاريخ بمجمل قضاياه وإحداثه إلا أن  القضية الرأسية التي تستوجب حتمية العمل به في توثيق العقل للقياس هي صحة مصداقية الرسل والأنبياء من كذبهم باعتبار ما جاءوا به من فكر  تلازم مع تقييد الأسناد الإلهي لم يقف جنوحه عند تغييب العقل في تأسيس قداسة النصوص والشخوص للافتراء على الله بقدر ما تصدرت أكذوبتهم توظيفه بالشيطان المعبود الذي أستحكم بتطويق حياة ومصير البشرية عبر العصور..

ومعيار الصدق والكذب النبوي وإن تلازم مع تأسيس الإيمان بوجود الله واقتران الهدف بحصر التبعية والطاعة للدين المقيد بشخوصهم  ومن يرثهم في الوصاية على الحكم إلا أن وجوه القياس تتعدد وتختلف  باختلاف أدوات التوظيف .

منها على سبيل المثال الموازنة بين معايير الصدق والكذب في مرجعية الفكر الديني بمعتقداته المختلفة للإله أو الشيطان قياساً باقتران صفاتهما بمقاصد الخير أو الشر في توظيف الأصول لأسس ومضامين (الحق من الباطل والعلم من الجهل والعدالة من الظلم والأمان من الخوف والسلام من الصراع ) وغيرها مع مقارنة الاستدلال بانعكاسات الفكر على واقع الشعوب ..

حجب العقل

 حين تكون الحقائق أمام أعيننا ولا نراها ثم  نحكم  عليها بما تجيزه قراءاتنا المتباينة بخلافاتها فنحن بذلك نؤسس في انعدام توافق الرؤية لثبوت صحة قصور العقل البشري التي استقام عليه عضد الدين في تعطيله دون النظر إلى خلفية القصور والنقص والتناقض في تكوينه المقيد بسياج الحجب التي غالباً ما يختزلها الوعي على هامش الارتباط  الزمني بحواجز وقيود المعرفة كقرائن مانعة للتمكين ..

وتلك الحجب يمكن تضليلها بموانع التواصل المعرفي المقننة بتقييد حدود القدرة على الاستيعاب بنطاق الفكر واتجاهاته في السيطرة على الوعي وتوجيهه والتي يستحيل على العقل أن يتحرر من قيودها دون  تشخيصها كمحور ارتكاز لانبعاث المؤثر السببي لتفكيكها ..

وهذه الحجب رغم أنها متعددة ومتداخلة مع جميع قضايا العقل إلا أن ضرورة الاقتضاب تقتضي التركيز على الأكثر أهمية  في الحضور والتأثير المتدرج والتي نستخلصها في الآتي :

1-حجاب النفس

وهو الحجاب الرئيس الذي تتشكل عنه بقية الحجب فيما يتمحور حول تجرد النفس بالذاتية المنفصلة عن العقل في تطويق الأنا للاستيعاب بالحدود والقيود الارتباطية بالمصالح المتدرجة في تمثيل تطلعات الذات المتدرجة من تلبية المطالب الضرورية للحياة إلى حب  التملك والاستئثار في تصاعد الأطماع صلة بالانقياد للغريزة والهوى في إشباع رغبات النفس والتي غالباً ما تجنح بالوعي لاتخاذ سبل الانحراف دون مبالاة أو استدراك للنتائج..

وحجاب النفس كما هو قيد على الإدراك والاستيعاب المحدود بنطاقه فهو أيضاً قيد على الإرادة وتوجيهها للتواصل والتفاعل والحضور المجسد بطبيعة المؤثرات الارتباطية المقيدة بمحدودية القدرة واتجاهاتها المتداخلة في تمثيل علاقات الفرد المتسلسلة بمنظومة الوجود والحياة ..

من هنا كانت ضرورة المعرفة بالنفس هي السبيل لتفكيك الحواجز المتداخلة في تعزيز مكوناتها لحجب العقل  المتدرجة في التشكل بدأً من تحلل الغرائز  إلى رغبات ثم تحلل الرغبات إلى أهواء وتحلل الأهواء إلى طباع صلة بتقييدها للإرادة بالدوافع والموانع الموجهة لسيكولوجية الذات بطبيعة الارتباط بكلٍ منها..

وما يعنينا في تأسيس ضرورة المعرفة بالنفس هو أن انفصالها عن العقل لم يقتصر وحسب على عقلنتها للمعرفة الاحتمالية   وتبرير قصورها بفرضية التدرج  والغموض بقدر ما تجاوزتها إلى تطويق العقل بالحجاب المانع لاستيعاب علاقاته المتشابكة في تركيبة الواقع والتي تصدرت إشكاليته تمحور البشرية حول قضايا الخلاف والصراع بتبعاتها المتصاعدة في  تمكين الشر من التوسع والامتداد في خارطة الوجود والحياة ..

2- حجاب الجهل

الجهل ضد العلم وله سياقات متعددة في التشكل بالقيود والحواجز المانعة للاستيعاب من حيث كونه متصل بطبيعة تكوين النفس ويسير على هدي انحرافها كقرينة ارتباطية بعشوائية التشكل المتناقض المحمول على تجميد العقل  في محيط الموروث الزمني لمعتقدات وتقاليد وأعراف البيئة الحصرية صلة بانحسار تجربة الفرد في توجيه علاقته بالمحيط الاجتماعي على محاولة تأمين ظروف  الحياة  المعيشية..

وللجهل آثاره المترتبة على تقييد الوعي بالتجربة المحدودة  الموازية لهامش القدرة على استيعاب الفرد لما يدور حوله ،  بل وغالباً ما ترتبط تجربته بالخرافات والأوهام والتخلف الاجتماعي وعلى ذات السياق تحتكم قيوده للمسلمات التي تشكل بمفاهيمها ويعتقد فيها صحة المعرفة دون الحاجة لمقارنتها بتطورات العلم  وانعكاساته على واقع الآخرين..

ومقياس الجهل بين الأفراد والمجتمعات غالباً ما يتضح من خلال مظاهر التخلف وسيطرتها على اتجاهات الوعي فيما قد نجده لا ينحصر  على طبقة غير المتعلمين فقط بل تتداخل قيوده مع تشكيل طبيعة الحجب التي تليه..

3-حجاب  الاستلاب والتأثر

 وهو الحاجز الذي ينبثق عن الجهل ويستقيم بخلفيته انحسار الوعي في حدود التسليم بالمفاهيم والأفكار السائدة بمؤثراتها الارتباطية بالواقع  فيما يتحكم بتوجيه قراءاته تغير المؤثر في المحيط الاجتماعي كمعيار لتحول أنظمة الحكم  واتجاهاتها في تمثيل السياسات والتي يصبح تأثيرها على الفرد والمجتمع محكوماً بما تقرره مستجدات  الواقع في الانقياد لتبعيته..

ورغم أن هذا الحجاب قابل للتحول إلا أن طبيعة تكوين الاستلاب لاتحتكم لنمو الوعي بالمتغير بقدر ما تتشكل قيوده  ومؤثراته من تجرد إرادة الفرد والمجتمع المتلازمة مع التسليم بالقديم والمستجد مهما بلغت محاذير انعكاسات كل منها على واقع  الإنسان والحياة  ..

4-حجاب الإيمان

وهو الحجاب المنبثق عن الاستلاب والتسليم في تقييد العقل الافتراضي بمرجعية الفكر العقائدي كركيزة متجانسة لتوظيف مشروعية الحكم  صلة بتأسيس مسلماته الغيبية قاعدة  موجهة لتطويق حياة ومصير الإنسان بمحاذير الترهيب والترغيب المضلل بتعويم الحق والاستحقاق بالالتزام  بمقدساته ..

وكحجاب للعقل فهو يتشكل بقوة التأثير المتجانس بتأسيس الإيمان بالإله والنص الديني والمبلغ  للحاجز النفسيً المانع للأدراك من استيعاب أي فكر مخالف لاتجاهاته صلة بتعميد مرجعيته الثلاثية بالقداسة الروحية المحمولة على تحريم التعاطي مع مسلماته أو القياس بالفكر  المعرفي ومستجداته ..

ومحذور الأيمان له في دلالة الارتباط بالنفس صفة البديل للعقل بتسلسل مكوناته في اختزال ثوابت المعرفة بالنصوص  والتي بنى عليها الدين فرضية الخلاص من الشر بمقاصده المجردة بسلوك الإنسان فيما جسدت إشكاليتها منبع الشر بانحرافاته المتسلسلة من التفكك والانقسام  إلى الخلاف والاختلاف إلى التجرد بالحق والاستحقاق بتبعاتها في توجيه الصراع وامتداد هيمنته على جسور الحياة ..

5-حجاب العصبية

وهو الحجاب المنبثق عن الإيمان بتقييد العصبية للدين في سباق الاحتواء اللاهوتي بامتداد انقساماته المتفرعة عنه وتجرد كل منها بالتبعية للطائفة أو الكنيسة أو المذهب واستحقاقها في تمثيل مشروعية الدين والتي تشكل بدورها حاجز الفصام المانع للتواصل والاستيعاب المقيد بصكوكه ..

وحجاب العصبية بالغ الخطورة في تقييد التابع بحواجز الكراهية والأحقاد بردود الأفعال ضد الخصوم والتي غالباً ما تؤسس ركيزة  التأثير على العوام في توجيه الصراع كما نراه اليوم في عالمنا الثالث ..

6-حجاب الايدلوجية الفكرية 

وهذا الحجاب هو القيد الموازي للعصبية العقائدية في التشكل بالفكر النقيض بقضاياه الموجهة بعوامل الخصومة والصراع والمتمثل في الغالب بالفكر السياسي والاقتصادي والذي يجعل من التابع مقيداً بمفاهيمه الارتباطية بالأهداف والمقاصد الخلافية واتجاهاتها للتفرد بالسيطرة على مقاليد الحكم..

وبرغم أنه لا يحتكم لقيود القداسة الفكرية كما هي في تركيبة الفكر الديني إلا أن حضوره في الأوساط المتدنية ثقافياً قد لا يختلف عنه في تقييد الالتزام التبعي بالإيمان بالأسس والمبادئ الفكرية صلة بتمجيد مرجعياته أو القائمين على تمثيله والتي قد تصل مرتبة القداسة حتى ولو ثبت انحرافهم في توجيه السياسات ..

7- حجاب الفهم

وحجاب الفهم هو حلقة امتداد الحجب السابقة صلة باقتران الوعي بحصيلة الاستيعاب  الموجه  بتقييد محدودية التواصل بجدلية استعراض ومناقشة وجهات النظر كما عرضنا له مكتملاً في سياق الجزء الخاص بدراسة وتحليل أكذوبة الدين ..

 وبالنظر لتأثيره الواسع في اقتران صلته كحجاب للعقل بجميع المعارف والثقافات البشرية فموضوعه الأساس هنا يختزل معضلة صياغة الوعي بمتناقضاته التي أرست معضلة الخلاف والاختلاف قاعدة للتفكك والصراع وصاغت  إشكالية الواقع بمحاذيره وفي استيعاب طبيعة تكوينه في الإنسان ما يؤسس تحرير العقل من حواجزه وقيوده..

8-حجاب القناعة المعرفية

  والقناعة هي خاصة النخب من الفلاسفة والعلماء والمفكرين والباحثين عن الحقيقة والتي تُعِمل عقولها في التأمل والتفكير والدراسة والبحث في القضايا الخلافية والمستعصية وصولاً لبلوغ الإدراك مرحلة الوقوف عند تصور بعينه ينحصر الفهم عنده في تجرد الوعي بصورة القناعة المعرفية وعنها ظهرت العلوم والمعارف المختلفة..

والقناعة كحجاب للعقل قد تصبح موازية للإيمان في الاعتقاد بصحة الرؤية  مع اختلاف اقتران الإيمان بالتسليم الأعمى واقتران القناعة بالتفكير والتأمل والبحث إلا أن إشكاليته تتجلى بوضوح في تمحور صاحب التصور وكل من ينتصر أو يؤمن برأيه في محاولة إثبات صحته  انطلاقاً من تقييد العقل بنطاق الرؤية وفي تضارب معطيات القناعة الخلافية ما يؤسس واقع انحسار الفكر البشري حول أزمة المعرفة بمسوغاتها كإشكالية ممتدة استحكمت مفارقاتها في التشخيص بتغييب الحقيقة الثابتة باليقين المعرفي  في تعويم الحقيقة النسبية كقرينة لمتغيرات الفهم والقناعة ..

9-حجاب التداخل المتناقض

  وهو الحجاب الذي وقفت إشكالية الغموض المعرفي عالقة في تداخلاته فيما تتشكل موضوعيته بعشوائية استيعاب المدارك العقلية للمفاهيم المركبة بمتناقضاتها التي تحكم اتجاهات وسلوك الفرد وفق موازين القوة المتصاعدة في التشكل بالكيان الفكري الموجه للإرادة بطبيعة تقييد المؤثر لطاقة القدرة على تمثيل حضورها في توجيه تفاعلات  ونشاط الجسم المادي في حركة الحياة ..

 وهو ما نعني به أن لكل مفهوم أو فكرة تختزلها الذاكرة مكوناتها المتداخلة من نسيج الأفكار التي تتشكل بوحدة طاقاتها مع خلايا الدماغ كياناً منفصلاً بتقييد محيطها الفلكي لمنسوب القدرة على التواصل والتفاعل مع بقية الأفكار بواقع اقتران كل منها بالسمات المشتركة للنظائر ..

مثال ذلك ما نراه في طبيعة تشكل الإنسان بالفكر الذي يجسد كيانه المنفصل بطبيعة تكوين الجسم المادي قرينة للفلك المحيط الذي يحكم قدرته على التواصل والتفاعل مع الآخرين بطبيعة اقتران  العلاقة المحورية بالأفكار المشتركة كتجريد لتوافق السمات فيما تختلف مع بروز المتناقضات مع نفس الأشخاص أو غيرهم بحيث تجسد الحاجز المانع للتواصل والتقارب الموجه بمؤثراته ..


الصفحة التالية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق