نبوءة العقل

نبوءة العقل

نظام الحياة

 

 حين نستعرض الفكر الإنساني بمجمل قضاياه الخلافية والمتشابكة نستخلص بما لا يدع مجالاً للشك أن كل جزئية بتبايناتها هي بمقياس ما تحققت من معارف تبحث أو ترسم  منهجيتها مبدأ العلاقة بمنظومة الحياة ..

 وهو الأمر الذي يصل بنا إلى حقيقة واحدة هي أن إشكالية عدم انتظام الإنسان مع الوجود والحياة هي إشكالية الفكر بمقاصده الاستثنائية التي شكلت واقع الشر والانحراف في طبيعة الحياة ..

ونظام الحياة بجميع تفاصيله وجزئياته لا يمكن تجريده عن القاعدة الكونيةلتحقق الوجود بالتشكل والتطور والحركة والامتداد كمنظومة وفاقية للبناء ..

وهي القاعدة التي جاز بها تكليف الإنسان بالائتمان على الحياة في بناء ذاته فصلاً بين تمثيل الخير أو الشر لوجوده بامتداد علاقاته وروابطه المتسلسلة بمظاهر ومقاصد الحياة..

وباعتبار نظام الحياة موازينه فكر هو عقد الوفاق الاجتماعي للحراك والتفاعل فموضوعيته قياسها طبيعة النفس البشرية بما يختزل وعيها الباطن في حصيلة التجربة الزمنية للبناء  من أفكار ومعارف تستحضرها موازين القيم والفضائل والأخلاق وأضدادها صيغاً للمقاصد والغايات والقدرات لها عقد السيطرة وتوجيه الأداء في التفاعل الذاتي والتواصل مع المحيط..

وتلك فحواها في جدوى بناء الإنسان نظام حياة تنتظم بقوانينه مساحة علاقاته وارتباطاته ومسارات حياته واتجاهاته استوجب تقييد نظام الحياة قاعدة موازية لطبيعة النفس قياساً بتمثيل الضابط الاعتباري لمنظومة العلاقات في موجبات الاستحقاق العام ..

وباعتبار نظام الحياة عقداً اجتماعياً يستوجب الوفاق على الشراكة العادلة للتعايش الآمن قاعدة متوازنة للانضباط في تعاملات الحياة فقد تلازم تقييد سلطته بالقيم والأخلاق ركيزة بناء فضيلتها توطين وحدة الخير قاعدة وفاقية تستقصي موجباتها تفكيك مواطن الشر واجتثاثه من جذوره كمعوق للبناء والانتظام..

وذلك لأن منظومة القيم ترتكز في جوهر مبناها على وحدة الفكر وتسلسل موضوعاته كمعادلة ثابتة للانتظام كما أن موسوعة الفكر الإنساني بمجمل تفاصيله تعتمد في كل ظاهرة معرفية  توصيف القيمة وتحليل مقاصدها في الحياة ..

وفي ذلك ما يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن الانحراف درج في سياق تفكيك موازين القيم وتفصيل مقاصدها على النحو المخالف للسياق وهو الأمر الذي انعكس بدورة على تخلق الفكر المعرفي بالعشوائية المتعذرة بانعدام التوازن والانتظام ..

وباعتبار ما يعنينا في فلسفة القيم والأخلاق هو توصيف معادلة الثبات والانتظام في الحياة فمقتضى العرض يستوجب في البدء تحليل وحدة القيم من خلال تسلسل مفردات البناء انطلاقاً من قيمة الحق في مقاصد الاستحقاق كمرتكز أساس لقاعدة الوجود والحياة تحيط دلالته بمجمل قضايا ومنازعات الفكر المتعارض.

وهنا قد يكون الاعتقاد السائد في الأوساط المعرفية والعلمية حول نشأة القيم أنها تبلورت في سياق التحلل الأخلاقي لمنظومة العلاقات والتجارب البشرية كقرينة وصفية للتدرج المعرفي بموازاة تطور حضارة الإنسان غير أن الحقيقة في منطق الاستدلال على خلاف ذلك إذا ما استثنينا وضع المعرفة البشرية في دائرة القياس والترجيح ..

 والقضية من حيث منطق الاعتقاد قد يكون له حيثياته المساندة للتوصيف المعمول به في تشخيص القيمة من دلالات التدرج في البناء غير أن الإنسان عرفها واسترشد بمعانيها من تأملاته في خلق الكون ونظامه قبل ظهور الحضارات وتطورها وفي ذلك ثبوت وجودها قبل خلق الكون قاعدة وصفية للبناء استرقى في معانيها توصيف لاهوت القدرة في الربوبية قاعدة كونية للتوافق والانضباط..

وهو الأمر الذي يؤسس تحققها بالصيغة الحسية في سياق التدرج الوصفي المترابط لتحلل النوع قيمة مفردة بذاتها جامعة للسمات السابقة لها فيما شكلت حلقة امتداد ما بعدها في تمثيل النوع الموازي للارتقاء بطبيعتها في كل قيمة بموضوعية الوحدة والإطلاق..

لذلك ارتبطت نشأتها بالجذور الوصفية لمبدأ الوجود من حيث الأولوية وتحققه بالقيمة الراسية لوحدة الكون في المجال بصيغة(الواحد) ثم تحلل القيمة إلى طبيعة ذاتية مجازها التفرد بوحدانيته في الوجود في صيغة(الأحد)حيث شكلت وحدتهما الفكرية قاعدة التزاوج  والتخلق المتسلسل لمفردات القيم ..

وتفصيل المعنى أن تحقق المجال الكوني بصفة الأولوية تمثل صفة(الواحد)بموازاة القيمة العددية للرقم(1) المعرف بأصل الأعداد في دلالة الثبات وعدم القابلية للانقسام غير أن تحلله إلى طبيعة ذاتية في صورة(الأحد)كان له صفة التزاوج مع الظلام الكوني الذي جاز به تمثيل الإضافة الثنائية للقيمة الواحدة فيما علل التزاوج تخلق صفة(الإحاطة) وهو معنى إحاطة الواحد بالأحد فيما تخلق عن الثاني والثالث صفة(الإطلاق) وهكذا دواليك..

وباعتبار ما يعنينا في هذا السياق هو فلسفة قيم الحياة كوحدة جوهرية متصلة ببعضها فوجه المقاربة والاستدلال لا يحتكم وحسب للتسلسل الموضوعي إذا ما اقتضى الأمر تفصيل كل قيمة على حده دون تتابع لأسباب جوهرية أهمها أن كل قيمة في حدود وظيفتها تنتظم بموضوعية التخلق بالقيم الأخرى من حيث الترابط البنيوي لمنظومة البناء..

مثال ذلك قد تؤسس قيمة الجمال أو المحبة أو الأمان صيغة مفردة للوظيفة المقدرة بتمثيل انعكاس أحاسيسها ومؤثراتها الروحية في طبيعة الحياة غير أنها في مضمار التشكل تنتظم في سياق التمثيل التناسبي لمجمل القيم في الوحدة الجوهرية لصفة التقييد..

ولذلك كان اختلاف تعاطي الناس مع القيم محكوماً بمحدودية التشكل النسبي لكل قيمة فهذا يرى الجمال في الطبيعة الجافة(التصحر) وآخر يراه في الطبيعة العشوائية وغيره يراه في تناسق الألوان وهكذا دواليك غير قيمة الجمال كعلم متفرد بخصائصه لا تحتكم إطلاقاً لمفارقات التشكل بقدر ما تمتثل لطبيعة الارتقاء بالوعي الحسي إلى أعلى مراتب الشعور بروحانية السمو والكمال..

وفي ضوء ما سبق نستنتج أن كل قيمة من قيم الحياة لها في معنى البناء خاصية من خصائص الوحدة الجوهرية للانتظام والانضباط نستوفي قراءتها في العرض التالي..

-حيث أن القيمة الجوهرية لخلق الوجود مقومها الحياة وكان ثابت البناء قوانين منظومة لها في دلالات التمثيل التناسبي أحكام الانضباط والانتظام في تطور الحياة وبمقتضاها تشكلت معارفها في التوثيق النوعي بدلالة القيم كمعادلة وصفية للبناء فركيزة كل قيمة في تمثيل النوع حكماً على تسلسل الوظائف في تجسيد وحدة الوفاق والترابط المعنى بتمكين الغاية..

-وباعتبار الغاية من الحياة هي مطلب الاستقرار وركيزة الاستقرار في الأمان والسلام والقيم المتفرعة عنها والتي تشكل بمجملها تجسيد الغاية للسعادة الروحية كمطلب للحياة وما بعد الحياة فركيزتها وجوباً بناء الإنسان عقد استحقاق وفاقي لانتظام الغاية ..

-وبحكم أن كل قيمة لها وظيفتها الاعتبارية في توجيه وحدة العلاقات والروابط الروحية فمقتضى تفصيلها كنظام للحياة يتدرج  من وحدة (الحق) وتسلسل المضامين على النحو الآتي:

1- الحق

الأصل في ثبوت الحق هو حق المالك في التصرف بملكيته مضمراً بحق الخالق في تمثيل وجوده وحق الإنسان في الحياة وله في ثوابت الاستحقاق العام مشروعية العقد الاعتباري للانتظام وفي طبيعة الوفاق صفة قاعدة الائتمان الكوني الموجه للشراكة الروحية والتعايش الأخلاقي في الوجود الواحد..

فإن جاز تحقق الوفاق على أن للكون خالق واحد كانت مرجعية الحق في ملكية الوجود والتصرف له وحده جاز به توحيد الائتمان على وجوده قاعدة كونية وجوبها تمثيل الحق الواحد دون تجزئة أو تخصيص..

ويعرف الحق في اللغة بالثبوت والوجوب وفي فلسفة الفكر يترجم المعنى صفة المبدأ الثابت للمعرفة الحقة وعقد الاستحقاق الضابط لقواعد الانتظام ..  

فدلالة الحق في مرجعية كل دين هو حق الإله الخالق في تصريف شئون الوجود والخلق وعقد الائتمان لطاعته وجوباً لنيل استحقاق الجزاء العادل في الدارين(دار البقاء ودار الفناء) وفي علاقة الإنسان بأخيه الإنسان هو عقد الشراكة في المسئولية والالتزام باحترام كل فرد لحق الآخر..

من هنا ارتبطت فلسفة الحق في الفكر الإنساني بدعاوى الحقيقة واستحقاقها وخلصت تناقضاتها إلى تهويم نظام الحياة تحت طائلة التوظيف المتعدد للشرائع والمناهج الدينية والسياسية فيما تجذر الحق في كل صيغة عقد مشروعية للتفرد باستحقاقه..

وباعتبار أن مشروعية الحق الجوهرية تدور في الأساس حول توصيف علاقة الإنسان بأخيه الإنسان في جدوى التعايش في الحياة كقضية محورية لانتظام علاقات الشراكة الأخلاقية في الوجود الواحد فإشكالية الحق في منازعات الفكر الديني لم تكن يوماً مشكلة المعرفة بقواعده بقدر ما تمثلت إشكالية الربط بين الحق ومرجعياته المتعددة في صور الآلهة وفلسفة كل عقيدة  لتوظيفه ..

ولذلك كان ثبوت الحق الإلهي قاعدة كونية للشراكة في الحياة حكماً على الفصل بين دعاوى المرجعيات واستحقاقها المجزأ عقد ائتمان الحق الواحد مشروعية واجبة لانتظام الحقوق المشتركة في الحياة..

فمن حيث امتثال الإنسان للحق الإلهي قاعدة كونية يختزل الحق في معنى وجوده دلالة الوحدة الفكرية للقيم المضمرة بمرجعيته لثوابت الاستحقاق العام في وجوب الائتمان ..

ومن حيث حق الإنسان في الحياة فمجازها في فضل الائتمان حق الشراكة والوفاق على احترام كل فرد لحق الغير في الكرامة والعيش الكريم دون امتهان وحقه في حرية الفكر والاعتقاد وابداء الرأي والتفاعل والابداع في الاتجاه الرافد لترسيخ وحدة الوجود والارتقاء بمعطياته وحقه في العمل والإنتاج ونيل استحقاقه وهو بذلك يحتكم لقاعدة العدالة والمساواة والتعاطي بمسئولية الشراكة الأخلاقية..

وهو حق المرأة في المساواة مع الرجل في الحقوق والواجبات والشراكة المتوازنة في الوظيفة العامة والعطاء وحق المواطن البسيط في مقاضاة السلطات والكشف عن مساوئها وحق القاصر والضعيف والفقير والمسكين والعاطل  والمريض في كفال الدولة وتوفير متطلباته دون تقصير ..

من هنا تصدرت وحدة الحق أولوية القيم المعنية بتقييد الشراكة الروحية مرجعية استحقاق عام وجوبه تحقق النفس البشرية بفضيلة الائتمان على أمانته عقد وفاق أبدي للأمان يستقيم بوحدته تجسيد الانضباط..

كما أن فضل التصدر ينتظم وفق موضوعية شمولية الحق للوحدة الجوهرية للقيم من حيث تسلسل الأحكام والوظائف وارتباط كل قيمة بالأخرى في سياق تمثل مبادئ الحق لموجبات الاستحقاق الخاص والعام ..

 فمن حيث الاقتران بالحق الخاص فقد كان لتميز الإنسان في الخلق عقلاً موازياً لحقيقة القاعدة الكونية للبناء والهدم في معادلة الخير والشر ثبوت التحقق ب(الحرية)صفة مستحقة للاختبار المقيد بتمثيل إرادته لاختيار الطريق بين بناء النفس بفضائل الخير أو مقاصد الشر وجوب استحقاق..

 فيما وقف تقييد الحرية في تمثيل الحق العام عقد انتظام الشراكة في الحق الواحد المضمر بقيمة (الحياة) في وجوب الائتمان عليها باحتراز المسئولية الأخلاقية في احترام كل فرد لحقوق الغير قرينة مستحقة لانتظام حقوق الجميع..

ولعقد الشراكة سمة الضابط الاعتباري المتصل بتمثيل قيمة(العدالة) قاعدة رادعة لمنع الضرر والإضرار بالغير تمثلت بدورها عقد الارتباط بتحقيق(المساواة) قاعدة للتوازن والتناغم الأخلاقي تنتظم في سياق ترسيخ التقارب والتواصل قاعدة تؤسس الشراكة على(التضامن) والتعاطي بروح (المحبة)والوفاق الجمعي على الانضباط العام صلة وصل بتحقق (الرضا) طبيعة عامة تُرسي بدورها قاعدة(الأمان)وبجدوى رسوخ الأمان يتحقق (السلام) قاعدة مستدامة يتجسد بمعيته(الاستقرار) وبالاستقرار يستقيم البناء على(الإبداع) وبوعي الإبداع يتخلق(الجمال) وبروح الجمال ترتسم(السعادة)واقعاًمثالياً تسوده السكينة والهدوء والانتظام في الحياة..

وتلك هي مرجعية القيم كوحدة جوهرية مترابطة في التسلسل المنظوم يستقيم بها عمود الحياة في بناء الفرد والمجتمع وبأحكامها تنتظم معالجة إشكالية الفكر المتشابك بقضاياه المتجذرة في حلبات الخلاف والصراع..

2-العلم

وهو نقيض الجهل وقاعدة الحق في ركيزة بناء الوجود والحياة ونور العقل والاستنارة المعنية بتفكيك معضلات الغموض والكشف عن أسرار الوجود وخفاياه تحققاً بثوابت الوفاق والانتظام في الحياة..

والعلم صفة إلهية جامعة لقيم الخلق والقدرة والإبداع استوجبت تماثل الإنسان بالعقل وسيلة لمعرفة وتقييد مواطن الخيرفي وجوده واحترازاً للشر وجوب ائتمان وتكليف فضيلتهما بناء النفس عقداً وفاقياً للانتظام والتعايش الأخلاقي في الحياة .. 

وقضية العلم كرسالة ائتمان وتكليف هي قضية التنشئة المعرفية والأخلاقية المعنية وجوباً باحتراز العشوائية في البناء بداية من تشكل الفرد بأنماط العلاقات والأخلاق والمقاصد وانتهاء بتلقي العلوم عبر المناهج التربوية والتعليمية في الاتجاه الممثل بمسئولية النظام الاجتماعي وسياساته الموجهة بجدوى تطبيع أخلاقياته في السلوك العام..

ومبحث العلم واسع سعة قضايا وإشكاليات الوجود نستثني قراءة الفروع بتضليل القيمة الأساس لموجباته كمقوم رأسي لانتظام الحياة وقفت إشكاليته الأولى عند معضلة التفكك والتباعد شاهداً حصرياً على تعذر الوفاق صاغت جذوره الزمنية تحلل الفكر في استحقاق (الأنا)منحنى لتوظيف الهوية تدرجت من تسطيح العقل الديني للقيم وتهويمها رسالات مقدسة مشروعيتها احتواء الألوهة وصياغة مناهج الحياة مواثيق شيطانية اشترعت النبوة قاعدة مجازية للعلم باللاهوت مقصداً للائتمان والتفرد بحاكمية الكون ..

ورغم تطور العلوم واتساع دوائرها والتي صاغت تقريب المسافات والابعاد وتمازج الثقافات والعقائد إلا أن بناء نظام الحياة رغم بروز القيم إلى السطح ظل عبر مراحل التطور الزمني مجرد موروث تقليدي يلتزم الانحراف المتجدد بتفكيك القيم تسوسه المصالح والتوظيف الملتبس دون الوصول إلى وفاق يجمع الإنسانية الواحدة على طريق مشترك ينهي فوضوية الإشكال وتعقيداته..

وباعتبار نظام الحياة ارتبط بالعلوم الاجتماعية إلا ان هذا المجال ظل قاصراً قياساً بالعلوم الأخرى كنتاج لعوامل الصراع السياسي والسباق الاقتصادي وانحسار قراءاته على الفلسفة التقليدية دون النظر اليه كعلم اختصاصي يستوجب تقييمه في أولويات القضايا المعنية بمعالجة كافة معوقات وإشكالات الحياة ..

وهو الأمر الذي يقتضي أن ترتكز دراساته على تمثيل وحدة القيم في العلوم الإنسانية ومنها الفلسفة وعلم النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد وغيرها بامتداد العلم الطبيعي والرياضي والتجريبي كقضايا مترابطة في تشكيل سلسلة البناء الواحد.. 

ولأن ما يعنينا في مبحث العلم يقتصر على توضيح أهميته كقيمة واجبة لانتظام الحياة  وقفت معضلته على خط الاحتمال النظري بدأً من المعارف اللاهوتية للفكر الديني والإشكالات التي فرضتها على أرض الواقع بامتداد العلوم الإنسانية والكونية وانتهاء بالعلوم التجريبية ومستجداتها المعاصرة في التسلح وخطورته المتصاعدة نحو هدم الحياة..

فالعلم مجازاً هو عقل الوجود والحياة في فلسفة البناء فضائله كما أشرنا في أكثر من مكان قيم هي حد الكمال في تحققه بثوابت الحق ، وهو محور العلوم الإنسانية والطبيعية والكونية المعنية بتوصيف قاعدة الاستحقاق والانتظام في الحياة..

فمن حيث كونه حد الكمال في التحقق بثوابت الحق فالاعتبار حكماً على تجريد مقاصد الخير في معطياته للحياة كمنظومة بناء موزون يسترقي ثبوته تجسيد الضابط الكوني للانتظام .. ومن حيث كونه محور العلوم الإنسانية والطبيعية والكونية فالاعتبار منظور بتدرج المعارف والعلوم سياقاً متسلسلاً بتمثيل استحقاق المنفعة وعوائد الخيرعلى تطور الحياة والارتقاء بالنفس البشرية إلى مصاف التحقق بالانضباط والانتظام..

من هنا ارتبط تدرج العلوم بقاعدتي الحق والاستحقاق وجوباً لتمثيل كل قاعدة لموجبات الخير في جوهر طبيعتها كقرينة علمية للتحقق بقوانين الانتظام ..

وباعتبار جوهر العلم في المعرفة فمبادئ العلم تقتضي أولاً معرفة العقل كمنظومة للإدراك الواعي واختزال المعارف يتصدر انتاج وصياغة العلوم وله الفصل فيها بالاستقراء والتأمل والمقاربة والموازنة والتحليل والقياس والترجيح والتفكير والاستدلال والاستنتاج والتحقق ثبوتاً باليقين المعرفي ..

وبموجباته تتشكل معطيات العلم وفق الأولويات المنطقية لمقاصد الحق بسندها المعرفي لمرجعية خلق الكون تشخيصاً بدور الفلسفة كمرجعية للعقل تُعنى باستقراء الأبعاد الخلفية لإسرار القدرة المضمرة بقراءة التناسب المعياري لقوانين التخلق الوفاقي للعناصر والظواهر قياساً عقلياً تستحضره علوم الكون والفيزياء والرياضة الرقمية والهندسية والفلك والهندسة الوراثية للتشكل الطبيعي والكيمياء والأحياء والتي تترجم بدورها صياغة القوانين..

وتلك العلوم بمجملها ترتبط بموجبات الاستحقاق كنتاج لانعكاس مردودها النفعي للحياة يقابلها في معطيات الفكر البشري العلوم الإنسانية بداية من علم النفس ثم علم الاجتماع يليه علم الأخلاق(السياسة) ثم الاقتصاد كمفاصل رئيسة لانتظام العلاقات ..

3- الحرية

وهي حق التصرف بملء الإرادة والخيار المنافي للعبودية والتقييد في مقاصد الاستلاب والتسخير القسري ولها في نتاج الفكر الإنساني صفة القيمة الروحية لتحرر العلم من قبضة القيود والاستثناءات العالقة في الجمود..

وللحرية في معنى الحياة سمة الحراك الرافد للبناء وفي جوهر الإنسان منسوب القدرة على التفاعل والتواصل والتكامل المعرفي والعملي صلة وصل بالفهم المتجرد عن الانطباع بالتحقق باليقين ..

ومناط الحرية في اتجاهات الذات عقد التحرر من الاستلاب والانقياد الأعمى للفكر الموجه وبيد الارتقاء بالوعي إلى وحدة الضمير ولها في طبيعة النفس فضل التحرر من القيود والنزعات والرغبات والأهواء والدوافع في ركيزة الانتظام مع العقل بموازاة تحقق الروح بالسمو الأخلاقي وفضائل الحكمة الواجبة لاحتراز شوائب  الانحراف..

والإنسان الحر هو الكريم المتعالي عن الصغائر بعزة النفس والإباء فلا يقبل الضيم والارتهان للحاجة أو المصلحة أو المساومة متجرداً بالحق عن الخضوع والخوف من التبعات تحكمه الجرأة والموقف الأخلاقي على مواجهة الظلم والخطأ مهما كانت النتائج..

وفي شواهد التاريخ ما يروي لنا مدى عظمة الإنسان في اعتزازه بحريته كسقراط الذي دفع حياته ثمناً لها خلال محاجاته للمجلس القضائي الذي عُقد لمحاكمته بتهمة الكفر بآلهة اليونان آنذاك ونشر التعاليم والأفكار المناوئة للدولة حيث ساومه المجلس على الكف عن تعليم تلاميذه في مقابل العفو عنه وتبرئته اذا ما وعد وعدا صادقا بذلك فكان رده على تلك التسوية بالرفض معلناً في مقولته المأثورة: (مادام ضميري هذا الصوت الهادئ الصغير في قلبي يأمرني بان اسير واعلِّم الناس طريق العقل الصحيح فسوف أواصل تعليمهم أصول الحق  واصرح لهم بما في عقلي دون اعتبار النتائج)( 1)..

ولأن الله خلق الإنسان على طبيعة الحرية ففضلها كان ثابتاً في مشيئته بالتجرد عن تقييد حرية الخلق بالإدانة الجبرية لعبوديته خياراً مستحقاً لذاته وجوبها في ذلك أن يكون لكل فرد حق اختيار دليله في بناء عالمه الخاص قاعدة وفاق أو انحراف مع طبيعة الحياة..

وفي ذلك ما يؤطر(الحرية) قاعدة ثابتة للحراك الكوني والطبيعي والتفاعل المتدرج لبناء الحياة تمثلها الإنسان عقد مشروعية كونية لامتحان الإرادة  بين مفترق الخيار ..

وعلة خلق الإنسان على الحرية موضوعها الأساس هو العقل قاعدة للمعرفة بالخير والشر تسترقي وظيفته توثيق الائتمان في النفس إرادة موجهة للخيار بين الانتظام والانحراف..

وبرغم أن مسلمات الفكر العقائدي للديانات الكبرى اختزلت المعنى في معارضة إبليس للرب وإطلاق حريته لإغواء الخلق حتى قيام الساعة إلا أنهم لم يرو وجه الانحراف في تقييد عبودية الإنسان للوسائط البديلة قاعدة مخالفة أضمرت توظيف الدين قاعدة جبرية تمثلت الغواية في تعميد لاهوت الشر وحكمت شيطنة الإله في كل أكذوبة شاهد ابتلاء..

وفي ذلك ما يعلل موجبات إطلاق الحرية للإنسان بموضوعية الارتباط بقاعدة الحياة ، إذ المعنى من حيث تشخيص الوفاق مع الله دليله الغاية من معنى وجوده وفي ذلك يستحيل أن يستقيم على التناقض بين أحكام وجوده في الحياة وتقييد العبادة مسلكاً متعارضاً حول طاعته حكم توجيه الشر المنافي لطبيعته منهجا للحياة ..

ولو جاز ثبوت الحق الإلهي بتقييد العبودية والتعبد مقصداً وجوبياً لطاعته في تبعية الدين لسقط التكليف وأصبح الإنسان محكوماً بالجبر المتعذر بتحكيم المشيئة المتناقضة دليل استثناء..

ولذلك كان خلق الإنسان على شاكلته عقلاً موازياً مطلق الحرية في التفكر والتمييز بين ثوابت الخير ومتغيرات الشر والتحقق بها قاعدة وصفية لمقاصد البناء والهدم والانتظام والانحراف في الحياة وجعل دليلها في الوفاق مع وجوده ثبوت التكليف وجوب استحقاق مضمر بتجسيد وحدة القيم في النفس قاعدة للشراكة الروحية في الحياة  ..

وكانت موجبات الحرية في شرط التكليف حكماً على ثوابت وجوده عقلاً كونياً خط موازين البناء وأحكم تفصيله نظاماً توافقياً للتطور والارتقاء بالحياة وشرع بموجباته مقاييس الهدم شواهد ضدية للانحراف بطبيعة الشر  وجوب امتحان المكلف بالائتمان على وجوده ..

 من هنا كانت الحرية مقيدة بالحق الشخصي للفرد قرينة مستحقة للعقل في استرقاء المعرفة لبناء الذات ينفرط عقدها في السلوك بما يتجاوز الضرر والاضرار بحق الغير لاعتبارات وجوبية أهمها أن قيمة الحياة بمجمل تفاصيلها هي وحدة تكاملية للوجود الواحد لا تتجزأ باستحقاق فرد أو جماعة أو كيان من حيث كونها حق عام لكل البشر والمخلوقات الحية باستثناء ما فرض تخلقها انتاج الضرر بالحياة .. 

3- العدالة

تؤسس العدالة بالمفهوم العام قاعدة الحق الشخصي والعام كأهم المقومات القاعدية لانضباط التعايش الأخلاقي  واعتماد مشروعيتها مرجعية وفاقية لاستقرار الحياة..

وتحتل قضية العدالة عبر المراحل المتعاقبة للتاريخ أهم القضايا المعقدة لفلسفة الانتظام حيث تمثل الركيزة الأساس لتطويق منافذ الشر واحتواء جذوره المسترسلة في تمزيق الروح البشرية وتفشي المفاسد والمظالم والانحرافات والاختلالات المتعامدة مع تقويض مقومات البناء والاستقرار  في الحياة ..

وفيما اختلفت تعريفات العدالة في التوصيفات اللغوية والاصطلاح من مجتمع لآخر ومن زمن إلى زمن, إلا أنها خطت أبرز المسائل التي تناولتها اطروحات الفكر الفلسفي والديني والسياسي قديماً وحديثاً كمعضلة زمنية تستقصي معالجة الفوارق الى إصلاح الواقع تحددت مضامينها الأولى في ضوء الجدل الدائر حول تساؤلات ظلت تطرح نفسها دون إجابات مقنعة تؤطر المفهوم الثابت لفرضية الانتظام ..

  منها على سبيل المثال :

-ما هو المعنى الصحيح لمفهوم العدالة؟ 

-كيف نفهم العدالة وهل لدلالاتها في الواقع من وجود؟

-وهل العدالة قيمة مطلقة أم  نسبية ؟

-وكيف تتحقق العدالة ؟ وما وسائل تحقيقها ؟

هذه الأسئلة وغيرها برزت في ظل تفكك العلاقات الاجتماعية والإنسانية وتجذرها بواقع تمدد الفوارق الطبقية نحو تأصيل الهويات العرقية والعقائدية والجغرافية وغيرها التي انتجت بدورها تضارب المصالح وطغيان النفعية على الأخلاق وبموضوعيتها نستقصي تفكيك ماهية العدالة من حيث تشخيص القيمة للعلل والأسباب والنتائج وتقييم المعالجات الصحيحة في ضوء المقومات والأهداف ..

والأولوية في مقاربة المفهوم الصحيح للعدالة تقتضي بداية تحليل وفهم ماهية العدالة كقيمة كونية ارتبطت بموضوعية الحق الاعتباري  للحياة في سياق تداخل حرية الحق الشخصي مع الحق العام وموجباته ..

إذ الأصل في ماهية العدالة الكونية لها في إضمار العلاقة بين الإنسان والكون صفة القضاء والقدر والتي قل أن يستوعبها العقل أحكاماً موزونة لطبيعة التشكل الذاتي بالمتناقضات وبموجباتها تتحدد الإجراءات والعقوبات الجزائية تلقائياً في الأقدار التي ترسم طريق الإنسان وخارطة حياته ..

وهي لا تقاس بحجم الثراء والفقر والقوة والضعف وغيرهما وإنما تقاس بطبيعة المؤثرات السالبة والموجبة على النفس البشرية وانتظام علاقاتها مع المحيط .. فثمة رجل قد يستحوذ على ثروة تعيل شعب بأكمله بالاحتيال والاستغلال غير أنه يعيش عقوبة الحرمان من لذة العيش والأمان طيل حياته وآخر يمتلك السلطة والنفوذ فيطغى ويتجبر غير أنه يعيش عقوبة الصراع والقلق والخوف والكوابيس في صحوه ونومه وقل أن ينعم بطعم الأمان والسلام الذاتي في حياته..

وفيما قد يرى البعض أن العدالة الكونية غير منتظمة قياساً بالضرر الذي قد يصيب أمم وشعوب كالكوارث الطبيعية وغيرها أو الأمراض المستعصية التي غالباً ما تصيب أطفالاً وأناس خيرون فالأولى ترتبط بالقاعدة الوفاقية بين المجتمع والطبيعة الكونية(1) أما الثانية فترتبط بالموروث الجيني والنشأة والتغذية وقد ترتبط أسبابها بعقوبة الحياة السابقة التي عاشها الروح (2)..

وباعتبار ماهية العدالة القضائية تتمثل في القوانين والأحكام والقواعد الأخلاقية لمنظومة العلاقات فدلالتها العميقة تكتسب صفة الميزان الترجيحي للحقوق والواجبات والعقود المتكافئة في ضوء الامتثال للحق الواحد مضمراً بفضيلة (المساواة) شرطاً وجوبياً لاحتراز التكافؤ قاعدة وفاقية لتعميد سلطة القانون على الحاكم والمحكوم والقوي والضعيف والغني والفقير والعالم والجاهل دون استثناء..

____________________________________________________ __________________________________________________________

 1-سبق وأن عرضنا لهذا الفصل في كتاب نظرية العقل تحت عنوان (القضاء والقدر ) الصفحة (318) وفيه أوجزنا تفصيل موجبات  العدالة الكونية ودلالاتها ويمكن الرجوع اليه للاسترشاد  والمقارنة ..

2-العودة إلى فكرة التناسخ  في موضوع أسرار الحياة  والعوالم الكونية

 لذلك ارتبط تمثيل الحقوق والواجبات بميزان العدالة الترجيحية للمفارقات الجوهرية بين الشخوص قاعدة تراتبية محكمة الموازين فيما حكم اقترانها بالمساواة ثبوت الحق العام في تكافؤ الفرص واستحقاق كل فرد للحرية والكرامة والعيش الكريم والتزام كل فرد باحترام حقوق الآخر والتماثل أمام العدالة بالصفة الإنسانية الواحدة ومقاصدها المشروعة للانتظام ..

ووفقاً لذلك نستخلص فرضية تعريف مفهوم العدالة الصحيح بالآتي:

-العدالة هي ميزان الحق الثابت في قواعد الاستحقاق الخاص والعام وعِقد الاعتدال الواجب ثبوتاً بتمثيل الضابط الاعتباري للحريات الخاصة من تجاوز الحق العام والإخلال بالتوازن المتكافئ لانتظام العلاقات وتقييد مسئولياتها بالرادع الأخلاقي  للانحراف..

وللعدالة في تجسيد الواقع مقومات الانضباط والانتظام حيث ترتكز فلسفتها على تقنين التناسب الوفاقي لمنظومة العلاقات المقترن بتوصيف الحقوق والواجبات والمقاصد المنحرفة والمنضبطة في ضوء المعايير الأخلاقية وتفصيل قواعدها أحكام وضوابط قانونية واجبة النفاذ والتمكين ..

والعدالة كوحدة موضوعية مترابطة تنقسم مقاصدها إلى ثلاثة مفاصل هي:

1-العدالة المدنية

وتؤسس مرجعيتها قواعد الانضباط المدني وقوانينه المعنية بتمثيل الضابط الشرعي للحقوق المدنية وإجراءاتها الجزائية المقننة بموضوعية الحقوق والواجبات المعتمدة للفصل في المنازعات والعقود المستحقة وجوباً لتوطين الانضباط الاجتماعي والأخلاقي وانتظام العلاقات المتكافئة بين الأفراد ..

2-العدالة الاجتماعية

وهي العدالة المعتمدة بتمثيل النظم الاجتماعية للعدالة المتساوية في الحقوق والواجبات العامة وجوباً لتوطين التوازن الاجتماعي والوفاق الأخلاقي على الشراكة المتضامنة في الحياة ..

 

3-العدالة الدولية

وهي العدالة المضمرة بتمثيل حقوق الشعوب للحرية والكرامة والعيش الكريم وجوباً لاحتواء المظالم الناجمة عن فساد وطغيان القوى المتنفذة وعلى وجه الخصوص في الدول النامية والعمل على تعزيز استقرار العلاقات بين الحكام والمحكومين بامتداد تمثيل العلاقات الدولية..

 هذا التوصيف يقودنا إلى استنطاق السؤال القديم المتجدد هل العدالة موجودة على أرض الواقع وعلى وجه الخصوص في عصرنا الحاضر وفيه ما نستخلص ثبوتاً تماهي وجودها بالحدود النسبية في المضمار الأول وتلاشي وجودها في الثاني والثالث كنتاج للعوامل والأسباب الظرفية وغياب المقومات..

 فمن حيث اعتبار العدالة المدنية لا تزال في طور النسبية فمعيار ذلك يتحدد وفقاً لتطور المجتمعات واتجاهات أنظمتها نحو تحقيق العدالة الاجتماعية وهو ما يجيز ارتفاع نسبة انضباط العدالة في الدول المتقدمة وانخفاضها التدريجي في الدول النامية وخصوصاً في العالم الإسلامي وفي ذلك ما يعلل الأسباب الموضوعية بطبيعة ارتباط العدالة بالشرع الديني ومفارقاته القياسية للحقوق والواجبات صلة بتمثيل النظم السياسية للدين..

فنصيب الذكر في الميراث مثل حض الأنثيين من وجهة نظر الدين عدالة وحق الرجل في الزواج  من أربع بالإضافة إلى ما ملكت يمينه من جواري شريعة حياة لا تعطي المرأة نفس الحق حتى في الشهادة والسارق الذي فرضت عليه الحاجة والظروف أن يسرق تقطع يده غير أن المرتشي والمسئول الذي ينهب المال العام لا ينطبق عليه الحكم وهكذا دواليك..

وبموضوعية العدالة الاجتماعية وهي المتشاكلة في الواقع تتجلى مفارقاتها في الاتجاه العام من حيث تنامي الفوارق الطبقية والعرقية والدينية وغيرها وتضييق حقوق الأقليات في الحد الأدنى للمشاركة في القرار والوظيفة العامة والتي رسمت بدورها تفشي البطالة والفقر والفساد واتساع دوائر الشر بمصادرة المتنوعة ..

وتلك تعتمل أسبابها في سياق تخلي الدولة عن مسئولياتها الأساسية تجاه المجتمع والعمل على تعزيز وحدته وانشغال الحكام بمسئلة البقاء واتجاهاته العائمة في توزيع المصالح والاستغلال المتجرد بسقوط القيم وعدم الانضباط..

أما طبيعة العدالة الدولية وهي رأس الاشكال فقد تعذر انتظامها بواقع التفكك الدولي والصراع حيث استحكمت بمفاصله عبرالمراحل الزمنية عوامل الارتهان للنفعية في سياق تضارب المصالح والتحالفات المنقسمة بانعدام التوازن وسيطرة الأقوى على منافذ القرار وتوجيهه في كل عصر..

من هنا كان ثبوت انحسار العدالة في الحد الأدنى لمشروع الانتظام واقعاً صاغت فرضياته ترجيح العدالة النسبية قاعدة تجريدية لمتغيرات الظروف والأسباب استحكمت بجذور ومفاصل الحياة نتاجاً عرضياً لتمدد الشر واتساع منافذ الانحراف حضوراً متصلاً حكم تقويض روح العدالة المطلقة بتبعاته..

وحيثية التشخيص أن قيمة العدالة كغيرها من القيم تنتظم وظيفتها وفق موضوعية الهدف والغاية وهو(الانتظام)قاعدة مطلقة تستحضرها وحدة الترابط الموضوعي بين مقاصد الحق والحرية والمساواة والنزاهة والأمانة والمصداقية والتجرد والتحقق شاهد استقامة العدالة على الكمال..

وباعتماد الواقع شاهداً على نسبية القيمة ما يستثني تقييدها بمفارقات النزعة الحيوانية عند الإنسان واتجاهاته العائمة في تأصيل حق البقاء للأقوى..

ولذلك كان تمثيل العدالة بصفة الميزان مقترناً بتعادل الموازين وليس بتغليب رجحان الكفة على الأخرى في تجاوز الحقوق والواجبات المستحقة لكل فرد..

وباعتبار أن قيمة العدالة سندها الاستحقاقي فضيلة الانتظام في الحياة  فقد وقفت إشكالية الانتظام كمعضلة زمنية على خط انعدام التوازن تتأرجح بين مفترقين :

الأول : غياب العدالة الدولية كمقوم للعدالة الاجتماعية بواقع الارتهان للتفكك وفلسفة الصراع وتضليل القوانين الدولية والدستورية للنظم الاجتماعية للمبادئ العامة القابلة للتفكيك وعدم النفاذ في سياق توظيفها لخدمة المصالح والمتنفذين ..

الثاني: تقييد العدالة المدنية بمرجعية الواقع والاجتهاد الشكلي للتقنين الموجه وفق تداعيات وإشكالات النزاع ومقتضياته المتجذرة في طبيعة المقاصد والتي فرضت بدورها تعميد التمثيل الصوري المقنن لاحتواء المشكلات العارضة في تشابك المصالح..

وبواقع أن ميزان العدالة لم ينتظم في التسلسل الزمني حيث ظل عارضاً لمسوغات الواقع وفرضياته فرأس الإشكال يتجلى بوضوح في سقوط القيم والأخلاق وتغييب سلطة النظام والقانون كنتاج للانقسام الدولي والتشرذم الاجتماعي المتعذر بانعدام الرؤية والاستلاب الموجه لهيمنة المصالح والقوى المتنفذة واستحواذها على مصادر القرار..

من هنا كانت مقتضيات انتظام العدالة قيداً على خمس معالجات :

1-تحرير العدالة الدولية من هيمنة القوى والمصالح المتعارضة وتفعيل دورها في الاتجاه الضامن لتمثيل حقوق الشعوب بدأً بإصلاح القوانين وتعزيز وسائل رصد الخروقات  والإجراءات اللازمة لتمكينها من محاسبة السلطات والقوى المتنفذة في كل دولة على تجاوزاتها بمسئولية أخلاقية وفقاً للقوانين ..

2-تجريد سلطة الفرد من التحكم  بمصدر القرار وإرساء سلطة النظام والقانون بالتلازم مع توثيق النظم لشروط الولاية وقواعد الانتخاب الحر للسلطات وتحديد مسئولياتها..

3-أرساء مقومات العدالة الصحيحة من خلال تعميد المواطنة المتساوية في الحقوق والواجبات قاعدة دستورية للنظام وجوبها تبديد الفوارق والنزعات وتعزيز وحدة المجتمع وتضامنه ..

4-تحرير الفكر التشريعي من التبعية والالتزام بقواعد الشرع الديني والتقليد العرفي لتقنين الأحكام واعتماد العلم والقيم وسيلة لدراسة وتقويم المشكلات في سياق تنظيم ورفد أطر التشريع بالاختصاصات والكفاءات العلمية في المجالات المختلفة ..

5-تمكين الأداء التشريعي من واجباته الرقابية على السلطات المعنية بتنفيذ القوانين المعمول بها والارتقاء بمستوى فاعليته إلى جادة الانتظام والعمل على تحجيم الفساد وتجفيف منابعه كمصدر رئيس لتغييب العدالة..

وتلك بمجملها قد تشكل معضلة الوفاق الدولي مالم تتحرر الشعوب من الخنوع والاستلاب وتلتقي كلمتها بروح المحبة والحق الواحدعلى استحقاقها في الحرية والكرامة والعيش الكريم في الحياة..

4- الأمان

يعلل الأمان في الاصطلاح المعرفي معنى عِقد السكينة وروح الوفاق النفسي لاستقرار الحياة ، وهو نقيض الخوف وتبعاته المتشاكلة في تقييد النفس بامتداد الواقع بأعراضه وعن دلالاته ترتسم قواعد الانضباط وأحكام الانتظام..

وصلته بالنفس بناء هو قاعدة الائتمان الشرطي للوفاق ممثلاً باقتران المقاصد بالقيم والأخلاق في جدوى تمثيل التوازن بين التحقق المعرفي بموازاة التخلق الانطباعي(اللاشعور الحسي) المنافي لسيطرة الخوف من المجهول والارتهان لتقييد الأمان بالوسيلة والحاجة ..

وتفسير ذلك أن الإنسان يحتكم للأمان في المال أو المصلحة مقصداً تستحكم به صروفه بانحرافاته وتبعاته حيث يصبح قيداً على صراع النفس والارتهان لمخاوفها بخلاف أن يراه في الرضا والقناعة عقد ائتمان يسموا بشعورة الحسي إلى التحقق بالسكينة  والوفاق الذاتي..

ولذلك كانت فضيلة الأمان قاعدة إلهية كونية وجوبها في التخلق إسقاط مبررات الخوف من وهم العارض الذهني للمجهول والتحرر من تداعياته شائنه في ذلك استقامة الحياة في النفس على طبيعة الانضباط والانتظام..

وباستحقاقه شرع الإنسان قاعدة الائتمان على نظام الحياة صلة وصل بتمثيل القيمة للجدوى ركيزة جذرية عمادها توطين الوفاق النفسي والاجتماعي المتلازم مع تحقيق الاستقرار المعيشي بامتداد علاقاته النمطية قاعدة وجوبية للانتظام والانضباط في تفاعلات الشراكة والتعايش الأمثل في الحياة ..

وله في جذور الزمن والإنسان صلة المبدأ والهدف الرئيس لمطلب الوفاق مع الوجود ممثلاً بعوارض وأخطار الطبيعة الكونية والبحث عن سبل مواجهتها وتفكيك عُقدِها المتسلسلة في تناقضات الحياة..

وبركيزته مطلباً لاستقرار الحياة نشأت العقائد وتشكلت مرجعية الأديان قواعد منهجية للوفاق صاغت مفارقات العلاقة بالألوهة المحتملة وفق محاذير الخوف من غضبه وتسليط نقمته على العاصي  وجوبها احتراز الشعائر الدينية والتعبد الافتراضي عقد استرقاء النفس لرضاه تحققاً برحمته وعطائه في الحياة وما بعد الحياة..

فبمرجعية الخوف من الرب مطلباً للأمان من نقمته استوحى العقل البشري من التناقض علة التناسب بين الخير والشر عقد مشروعية تجاوزت الفصل بينهما بموضوعية التماثل مع الواقع بدأً بتقييد الفكر الديني للألوهة بصفة الملك بموازاة عبودية المخلوق وتجريد استحقاق رحمته للتابع بالمنة في العطاء وتصوير سطوته وجبروته بالمنتقم الجلاد تمثيلاً بالعصيان حيث شخصت توصيف الأمان في وجهتين:

-الأمان في الحياة الدنيا تمثلاً بالإيمان وأداء الطاعات والصبر على العناء والبلاء تيمناً برضاه ..

-الأمان في الآخرة تحققاً برحمته وإسدال العطاء لما جاز به حرمانه في الدنيا ..

فيما تعذر فهم التناقض والالتباس حول حقيقته بواقع الارتهان للظروف والمقاصد وسيطرة الجهل معززاً بتمثيل المصالح الفوقية المتجردة بتثبيت نفوذها من خلال ترسيخ وتقييد منافذ العقل طوق استلاب الوعي العام وتسخيره..

من هنا اختزلت قضية الأمان رأس الإشكال الزمني في معضلة الوفاق مع الحياة حيث تشكلت معطياته في سياق تجذر مفاصل الشر وتداعياته النفسية والاجتماعية والتي جسدت استحكام النقيض وفرضت بدورها تقييد الواقع بانعدام التوازن  واتساع دوائر الانحراف في جميع منافذ الحياة..

وباعتبار الشاهد في موضوع الأمان له حكم المفصل الرئيس لانتظام الحياة فله في معاني الارتباط بالواقع مفاصل وجذور تشكلت في سياق تجذر عوامل الشر وتبعاته نستعرض منها على سبيل المثال ما يلي:

1-الأمان النفسي

ويعلله الشعور الذاتي للفرد بالطمأنينة والرضا كنتاج لحالتين :

الأولى: الاستقرار المعيشي وامتلاك مقدرات الحياة بموازاة عدم الاحتياج للغير وانتظام علاقات الفرد مع المحيط على المحبة والتكافل وتلك غالباً ما تكون نسبية وعارضة للظروف  والأحداث ومقتضياتها ..

الثانية: التخلق الذاتي بصفة الأمان بالشعور بالطمأنينة والرضا في سياق التأقلم مع الواقع وعدم الارتهان للحاجة والتعاطي مع المحيط بروح المحبة والحكمة  وتلك لها حكم الثبات..

وللأمان النفسي جذور التلازم مع مواجهة الخوف عبر مراحل التسلسل الزمني للعمر والتي ترتسم في اللاشعور الباطن وفق طبيعة النشأة  والثقافة المعرفية بموازاة القدرة الذاتية على موازنة الخطأ والصواب والدواعي والأسباب في محاذير الانطباع..

ذلك أن طبيعة التكوين النفسي غالباً ما تتشكل بموضوعية التراكم المعرفي كنتاج لأعراض الواقع المعاش بصروفه وتداعياته(حاجات ومطالب)تختزل طبيعتها مخاوف وتوجسات من المجهول قل أن تعمل العقل في ملابساتها مالم تتوافق مع القدرة الذاتية للوعي والإرادة ، ولذا كان الأساس في التحقق بالأمان مقدراً بتمثل الإرادة الذاتية للوفاق المتوازن ..

وتبيان المعنى أن النفس تختزل الأمان في الوسيلة والحاجة المتصاعدة للمطالب وقل أن تقبل باليسير توافقاً مع القدرة  والتأقلم مع الظروف ولذلك يتصدر الخوف هاجس الوعي مضمراً بتوطين الصراع النفسي الموازي لتمثيل تبعاته للمحاذير المتجذرة ..

مثل ذلك قد يخاف الإنسان من الفقر والحاجة والموت فيعتمد الوسائل الممكنة وغير المشروعة لجمع المال وحماية بقائه دون احتمال النتائج أو النظر إلى أن وجوده في الحياة مجرد مسألة زمنية لا يستطيع السيطرة عليها بل وقد يفاجئه الموت في اللحظة الغير مرتقبة ودون سابق إنذار ..

وجل ما نستقصي توضيحه أن فضيلة الأمان في بناء النفس نظام توافقي عماده تجسيد الإرادة الذاتية لانتظام علاقاتها مع المحيط ومطية الخوف  وهم عارض ورهان خاسر قل أن تجد فيه النفس غايتها وله في طبيعة التشكل حكم التخبط والعماء ..

2-الأمان الاجتماعي

 ويتمثل في قدرة النظام الاجتماعي على تحقيق استقرار المجتمع وانتظام علاقاته بموضوعية كفال العدالة والمساواة والأمن المعيشي لأبنائه وتجسيد الإرادة المتضامنة لبناء واقعٍ خالٍ من الصراع والفساد والبطالة والفقر والانحرافات  والجرائم بأشكالها المختلفة..

 وركيزة النظام الاجتماعي قيم ومبادئ وأخلاق هي عقد الشراكة الاخلاقية وروح الانضباط الواجب لقاعدة الوفاق والبناء فيما تتجلى مقاصده الاعتبارية بتمثيل مشروعية الائتمان لسلطة النظام والقانون وامتثال الإرادة السلطوية والقاعدية لاحتراز المسئولية الأخلاقية لفضائل الانضباط والانتظام..

وللأمان الاجتماعي مقومات لها في طبيعة الموائمة بين العلاقات وانتظامها مبادئ أهمها:

-تمثيل النظام لوحدة المجتمع وتكافله من خلال تطبيع وترسيخ مبادئ الوفاق بروح المحبة والتضامن والتكامل والانضباط وتحرير الواقع من عوامل التفك والصراع واجتثاث أسبابه..

-كفال النظام للحريات المنضبطة والعدالة المتساوية في الحقوق والواجبات وتطوير أدوات الإنتاج للارتقاء بحياة المجتمع  وتأمين وسائل العيش الكريم لجميع ابنائه ..

-تفاعل المجتمع مع النظم والقوانين في سياق تحمل مسئولياته في محاربة واجتثاث منابع الفساد والظواهر المنحرفة وصولاً لتوطين مبادئ الاستقرار العام..

-تحييد سلطة الأطماع والسياسات المنفردة بالقرار المعنية بتمثيل العلاقات الاجتماعية والإنسانية  بين الشعوب وخلق أجواء الموائمة بالتعاطي الرافد لانتظام العلاقات ..

ذلك أن الأساس في تحقيق الأمن الاجتماعي ركيزته ترجمه منظومة العلاقات لعوامل الانضباط أو الانحراف الأخلاقي في الواقع وتلك في مقتضى المعالجة قل أن تخضع لفلسفة القوة عاملاً للردع وتثبيت الاستقرار  بقدر ما تضفي انعكاساتها اتساع دائرة الخلل في النظام الموجه للعلاقات بطبيعته..

3-الأمان الإقليمي والدولي

وهو عقد الشراكة الأخلاقية بين الشعوب ممثلة باستقرار العلاقات الاقتصادية والجغرافيا السياسية والوفاق على التعايش الآمن وتوثيق جسور التواصل الحضاري والإنساني بروح الأخوة والمحبة والتكامل  ونزع فتيل الأطماع  والصراع ..

ذلك أن قاعدة الأمان بشتى مظاهره وتداعياته وأسبابه ونتائجه تلتقي محاذيره وتداخلاته المتشابكة عند رأس السلم المعني بتمثيل وحدة الشراكة الأخلاقية المنافية للتفكك المتعذر بتوظيف المصالح..

وفي ذلك ما يؤطر الأمان بالوحدة الجوهرية المتجذرة بواقع تصدير الخوف ركيزة برجماتية للتفكك والصراع واعتماد مرجعيته ثابتاً كونياً وقاعدة منطقية لفلسفة القوة والغلبة عبر تاريخ الحياة على كوكب الأرض..

والقضية بملابساتها أن جذور الوعي البشري بالأمان ظلت على مدى تسلسل المراحل الزمنية رهينة الموروث التقليدي لثقافة الصراع تستقي معطياته حضوراً متجدد لاستنهاض وسائل المواجهة والحماية من الآخر في سياق تضارب المصالح والأطماع ..

وبوعيها تشكلت الهويات مفترقاً للتفكك وصاغت منظوماتها على بساط التوجس من الآخر تقييد الأمان بالارتقاء بوسائل القوة للحماية المفترضة والتي أنتجت بدورها انبعاث الاطماع وهواجسها المعززة لطموح التفرد والاستحواذ وكان لمشهديتها ما أفضى إلى امتهان حق الإنسانية الواحدة في التعايش الآمن والوفاق على استقرار الحياة ..

ولعل في قراءة الواقع المسترسل عبر تاريخ الإنسان ما يفضي إلى أن نسبة تحقق الأمان يكاد يكون منعدماً لتلك الأسباب التي رسمها واقع التفكك والانقسام المتدرج من تركيبة المجتمع الدولي إلى تركيبة الشعوب وسلطاتها وصولاً للنفس البشرية ..

وتلك الأسباب قبل أن تتشكل واقعاً فهي نتاج فكر بشري واهم تعذر عليه فهم الأمان رسالة كونية فصاغ بطبيعته الحيوانية سبل تفكيكها وارتهن لقانون الخوف وتعقيداته قاعدة ائتمان الوسيلة عقد حياة ..

 

 5-السلام

 بين إرهاصات القلق والتوجس من الغير عاش الإنسان مخاض الصراع مع الذات والآخر قروناً من الزمن يستقصي سبل الخلاص من فيء العارض بحثاً عن الأمان في تعزيز الخوف والسلام في أمجاد الحرب والحياة في صكوك الموت  لا يرى من وجهته سبيل الغاية غير التعلل بالنقيض ..

ذلك هو الإنسان وعي الزمان والمكان لسان حال الجنوح والعماء المتجذر في تشكيل خارطة التناقض والصراع فواصل متسلسلة من الهويات والنزعات للنسل الآدمي الواحد وهو العقل المفكر والموجه صانع الحروب والأسباب عضد تفقيه مشروعيتها سبيل حياة ..

وهو النفس المجسدة للتناقض وعي تخصيص وتوظيف يتعاطى حرمة الدم في قتل الإنسان لأخيه الإنسان جريمة أخلاقية يحرمها الرب والدين وتمتثل لعقوبة القانون وقتل شعب لشعب حلال في منطق الصراع والتضاد يجيزه الرب والدين والقانون شريعة كونية لانتظام الحياة..

 وهو روح الحياة المجسد لوحدة الطبيعة الكونية في تكوينه المعني بتمثيل الوفاق والانضباط معها وجوباً لاستقرار وجودها ووجوده المتعالي بجهله وانحراف أخلاقه وقيمه لفرض سيطرته على مقدراتها وتوجيه امكاناته لتقويض الحياة فيها..

وباعتبار السلام ركيزة أخلاقية لمبدأ انضباط العلاقات الكونية ففضيلته الاعتبارية هي عقد الالتزام الواجب شرعاً بتمثيل وحدة الضمير الإنساني لانتظام الشراكة في الحياة وتجسيد الطمأنينة والأمان رسالة كونية لاحتواء الشر وتقويض أدواته ومشاريعه ..

من هنا كان معنى السلام مشتقاً من السلم المنظور بسلامة الحق والعرض والحياة وهو ضد الحرب والنزاع والمقصود به وجوباً تمثيل قاعدة الوفاق الأخلاقي والإنساني على مبدأ التعايش الآمن في الحياة ..

وله في تقييد طبيعة النفس حكم التجرد عن العدوانية والنزعة الذاتية باحترام وجود الآخر وتقديس حقوقه المشروعة في جدوى الموائمة بين استحقاق النفس للسلامة والبقاء بالتلازم الشرطي مع انتظام علاقاتها مع الغير..

والسلام صفة إلهية وقيمة كونية أزلية عقد مشروعيته انتظام العلاقات والروابط الأخلاقية تعذر فهم فضيلته الروحية بواقع انحراف الفكر البشري في تفكيك وتسطيح المعنى وتجذر مقاصده الدونية في تشكيل وتطبع النفس البشرية على حب الاستحواذ والعدوانية في منازعات الحياة ..

وفي هذا الصدد اختلفت آراء الفلاسفة عن طبيعة النفس البشرية وتعاطيها مع قضايا الحرب والسلام  فمنهم من يعتقد أن الإنسان شرير بطبعه وأن النزعة العدوانية والشر متأصل في غريزته البيولوجية والسيكولوجية ويستدلون على ذلك أن الأديان والقوانين والتشريعات وقيام الدولة بمؤسساتها المتعددة والاعراف والتقاليد انما جاءت لتحد من شروره التي فطر عليها.. في حين يذهب فريق آخر الى الاعتقاد ان الانسان خير بطبعته الفطرية، وان اتجاهاته للشر هي نتاج الارتهان لشهوات الجسد  والتي تجعل منه شريراً بوهيميا محكوماً بإشباع رغباته ومنها حب السيطرة والاستحواذ على مقدرات الغير وانتزاع ما ملكت أيديهم  بالقوة ..

وهو الأمر الذي يعلل الافتراق في الرأي خارج السياق الموضوعي للمعالجة من حيث اعتماد الفطرة الغريزية ركيزة لتقييد الخير والشر طبيعة في الإنسان وعلى ذلك لو صح ثبوت أحدى وجهات النظر لما تشكلت المفارقات النسبية بين البشر وكانت الغريزة حكماً على تجسيد الطبيعة الواحدة في النسل البشري وما تولد عن الشرير بطبعه ابناء خيرين وعن السوي أشرارا خلاف سجيته وطباعه..

ولذلك نرى أن تمثل الإنسان للخير والشر في طبيعته لا تحتكم قطعاً للغريزة في تكوينه بقدر ما تتشكل مع التنشئة والتطبع الزمني بالمقاصد والغايات تستحضرها مفارقات التكوين المعرفي في تجسيد تطلعات الأنا ونزعاتها الانطباعية وعياً لا شعورياً يسوس اتجاهات النفس بطبيعتها..

وتفسير ذلك أن الإنسان يولد متجرداً عن الخير والشر بواقع صفاء الذهن الماثل في تقييد قدراته وعجزه عن الأداء فيستقي الخير لنفسه مطالب واحتياجات لها حكم الارتباط بغريزته الحيوانية فيما يستقي دوافع الشر  من واقع الحرمان وتنامي الرغبات أو العكس في التدليل الموازي لتصاعد الأنا..

وتلك بدورها هي التي تؤسس قاعدة الأنا وارتباطها بالمحيط حيث تنتظم في سياق اختزال الوعي للأفكار والمعارف التراكمية لمعطيات الحياة المعنية بتطبيع إحدى حالتين أو كليهما حيث ترتبط الأولى بتهذيب النفس على الموازنة بين الحاجات وعلاقاتها الارتباطية بالمحيط والتحقق بالسلام الذاتي أو التركيز على الأنا واختزالها للمطالب والحاجات حقاً مفرداً متجرداً بالامتثال لإرادتها يسوس اتجاهات النفس للشر والاحتكام للصراع  وتوجيه علاقاته بواقع الارتباط بالمصلحة الذاتية ومزاياها..

وبديهية الاستنتاج أن الذاتية بصيغها المتجذرة من الأنا ومصالحها الارتباطية إلى تشكيل انماط العصبية الفكرية والمادية وتداعياتها للصراع هي التي انتجت عوامل الشر سلسلة من الحروب العدوانية وصاغ بذرتها تقييد الفكر الديني والفلسفي بمجمل خلافاته للنقيض ثابتاً كونياً للتضاد والتصادم حكم تقييد الصراع بالمشيئة الإلهية عارضاً لانتظام وتطور الحياة..

والقضية بدلالاتها الموضوعية أن قضايا الصراع البشري بمختلف منازعاته ونتاجه الزمني لم تحتكم  يوماً لإرادة الشعوب وحقوقها المشروعة في الحياة بقدر ما استحكمت بعواملها دوافع الطموح السلطوي ونزعاته النرجسية العائمة في جنون العظمة والأطماع نحو تسخير قدرات الدول وإمكاناتها العسكرية للسيطرة على مقدرات الشعوب المستضعفة وفرض هيمنتها عليها كبدائل للقصور والعجز في تحقيق الأمان والاستقرار لشعوبها..

وبوعي التأثير الثقافي والاستلاب تحققت بمقاصده البشرية عقد عصبية عمياء لاستحقاق الهوية ترجمتها أخلاق السياسة والحكم واتجاهاتها العبثية بالإنسان والحياة مشاريع مماثلة ترجمت العدوانية والتسلح في مواجهة الآخر قاعدة حياة ضميرها استحقاق القوة وشاهدها الموروث والتاريخ حكمت توطين الصراع والحروب مشروعية لاأخلاقية لفرض إرادة القوي على الضعيف بالتسليم والخضوع والقهر المقنن بتوظيف التفرد قاعدة مرحلية متداولة للسيطرة  المتعذرة بتطبيع السلام ..

وهو الأمر الذي نسخ تلك العقيدة موروثاً لحضارة الإنسان وبلغ في عصرنا الحديث رغم تطور وسائل العلم أعلى مراتب السقوط الأخلاقي في توجيه قدراته المعرفية والعلمية نحو تهديد بقاء الحياة على كوكب الارض وتلاشي وجود الحضارة  والإنسان ..

من هنا تمثلت قضية الحرب والسلام رأس الإشكال الزمني لتجاذب الأطماع واتساع دوائرها المسترسلة في تطبيع منازعات السيطرة والاستحواذ والتي أفرغت تداعياتها الزمنية تطبيع الكراهية والأحقاد بين الشعوب موروثاً متأصل الجذور صاغ حضارة الإنسان بمزيج الدم تاريخاً من الانتصارات والهزائم والاستعباد والقهر شريعة حياة..

وجل ما نستقصي ثبوته أن وعي الإنسانية بالسلام المفترض ظل حبيس الفكر المتشظي محكوماً بإرادة الشخوص المتنفذة ونزعاتها المتعطشة للدم والأطماع شائنها في ذلك استلاب الشعوب وخنوعها المتأصل بواقع الارتهان للموروث الزمني لانقسام الهوية والانكفاء حول هموم ومطالب الحياة اليومية الأمر الذي فرض إسناد الشعوب للسياسات العائمة في تفكيك المصالح وتوجيهها للصراع ..

وباعتبار السلام مطلباً إنسانياً له حكم الضرورة الحتمية لانتظام العلاقات بين المجتمعات أولاً وشعوب العالم ثانياً فمقتضى المعالجة تسترعي بداية تحرر الشعوب من الاستلاب والخضوع واحتراز المسئولية في مراجعة الفكر المنحرف وتداعياته منطلقاً وجوبياً لتوحيد الإرادة الجماهيرية نحو إعادة البناء وتلك مسئولية الحكماء والمفكرين والعقلاء في كل مجتمع..

وهي مسئولية الحكام والساسة إن جاز فيهم تجسيد الأمانة الأخلاقية بحق شعوبهم وأنفسهم بالعمل الجاد على دراسة ومعالجة عوامل الصراع أسبابه وتبعاته وتجريد أدواته في سياق توحيد الصفوف نحو تقويم وإعادة البناء..

6- المحبة

والمحبة هي الرابط الاخلاقي للسلام والقيمة الأسنى في مراتب البناء التي توحد القلوب على الشراكة الروحية في الحياة ولها في ميزان القيم دلالة القاعدة الوفاقية لوحدة المبادئ والأفكار وفي بنية الكون علة التناسب المتناغم بين العناصر في تشكيل منظومة علاقاته وقوانينه..

والمحبة الإلهية هي أسمى المقاصد الروحية تحققاً بالكمال في فضائل التوحيد والرباط المقدس بين الإنسان والخالق في وحدة الصفات وتجليات المعرفة بذاته والارتقاء بها إلى ملكوت الكشف  والانفتاح على أسرار الوجود..

كما أن للمحبة في علاقة الإنسان بالطبيعة الكونية صلة الانتماء للحياة .. فالشمس تمنحنا الدفء والطاقة والماء يمنحنا النظافة والإرواء والتناسب البيولوجي والطبيعة تمنحنا وسائل العيش والنماء والهواء يمنحنا النفّس الطردي مصدر البقاء.. وتلك في ميزان العلاقات والروابط بين اللاشعور والظاهرة قراءتها وحدة الارتباط الوفاقي المقترن بصفة المحبة عقد انتماء الشيء لطبيعته في القيمة النضيرة ..

فالإنسان حين يرتبط بنوع الغذاء المحبب لديه يعتمد مفهوم المحبة سمة للعلاقة بينه وبين المادة الغذائية للتعاطي وكذلك حين يتفاعل مع رغبة أو هواية معينة كالرياضة مثلاً مفردة بكرة القدم أو السباحة أو غيرها فعقد الارتباط صلة بالمحبة في طبيعة التجربة التي جسدت قاعدة الوفاق..

 وبدون المحبة يستحيل أن تكون هنالك حياة أو ينتظم بناء، ذلك أن التجارب الحضارية والأحداث والتفاعلات الزمنية في تاريخ الإنسان لم يكن لحضورها أن يتجسد  على أرض الواقع  إلا بفعل المحبة أو النقيض.. فبروح المحبة يتحقق التكامل والإبداع في البناء والإنتاج والانتظام وعلى العكس تعمل الكراهية على تجسيد الشر في الخلاف والتفكك وإشعال الحروب والصراعات وسقوط الأخلاق في النزعات العصبية وهدم مقدرات   الحياة ..

ولذلك فالمحبة ليست مجرد شعور حسي نحو الآخر وحسب بقدر ما تمثل رابط الانتماء الوفاقي مع مجمل مظاهر وظواهر الحياة ..

من هنا تعلل المحبة سمة القوة الخفية الموحدة للارتباط الوفاقي بين الإنسان والشيء بصيغة الانتماء دلالتها اختزال الوعي لطبيعته واستحكام سيطرته على الإرادة بقوة طاقتها شعوراً وجدانياً موجهاً لقياد النفس بمؤثراته قل أن يستطيع المرء مقاومته أو التحكم بردود أفعاله..

وماهية المحبة نسيج تناسبي من الطاقة الروحية الممتدة بين الإرادة الذاتية للفرد والمؤثر الخارجي المجسد لطبيعته وعياً لا شعورياً صفته تقييد رابط العلاقة صلة وصل بين الأطراف المعنية بتمثيل الانسجام..

وتضللها في وجدان الإنسان سمة العاطفة أو الهوى بطاقته الموجه للإرادة والسلوك والتواصل الأخلاقي مع المحيط بمفارقاته النسبية تستحضرها مؤثرات التجربة والمخزون التراكمي للمعارف والأفكار والتي تشكل حلقة التناغم الباطن وبوعيها تتشكل خارطة العلاقات النمطية مع الواقع..

وحكم التناسب يقدر قياساً بأفق الوفاق بين الرغبة والاستجابة من حيث مفارقات التكوين يعلل ذلك أن الرجل قد يتعلق بحب امرأة ما أو العكس من النظرة الأولى فيجد نفسه مندفعاً بقوة لاإرادية نحو الآخر  دون ضابط عقلي أو اتزان غير أن الاستجابة من الطرف الآخر قد تتعذر كنتاج لتعارض الممكنات في طبيعة تكوينه فتصبح المحبة قيداً على رغبة الطرف الأول فيما يقابلها الرفض من الطرف الآخر في تصدره للإلحاح المتكرر بتنامي الشعور المضاد وهي(الكراهية)وتحلل عوارضهما إلى عقد نفسية غالباً ما تستقيم على توجيه إرادة كل طرف إلى ردود أفعال خاطئة ضد الآخر..

وبالرغم من أن المحبة كدلالة شمولية تختزل صفة القيمة الرابطة لوحدة العلاقات الأخلاقية إلا أن للمعنى سياقات متفرعة تجزئت بين طبيعة المقاصدوالأعراض النفسية وتشكلت وفق موضوعية العلاقة ودلالتها المحدودة للقيمة الخاصة ولها في كل ظاهرة  سمة الاقتران بالغاية..

وهي الفرضية التي تعنون المحبة بتجريد الواقع للمصالح الارتباطية بين الشخوص وتقتضي المعالجة تحليل وفهم طبيعتها وأشكالها النمطية في السياق المتدرج لتراتب العلاقات ..

1-المحبة الغريزية: وهي العلة الطبيعية في تكوين الإنسان وارتباطاته بوسائل الحياة مضمرة بتمثيل الرغبات  للطعام والشراب والجنس والأمان يندرج فيها الحب المتبادل بين الطفل والأبوين بواقع الانتماء المشترك  بين الخلية المنوية للأب إلى التشكل والتغذية من دم الأم وحتى النشأة في أحضانهم ..

2-المحبة الشوفينية: وهي الظاهرة المتصاعدة لحب الذات يعللها الغرور والتعالي على الغير واختزال الحق للأنا ثابتاً حصرياً غالباً ما يتجاوز علاقاته بالمحيط بما في ذلك أقرب الناس اليه  وتنشأ في سياق التفضيل بين الأبناء وغرس الشعور بالتميز ..

3-المحبة الانجذابية: وهي حالة انجذاب اللاشعور الوجداني نحو شخص يستشعر في سماته التميز  وقوة التأثير والسيطرة ويرى فيه أحلامه وأمنياته وغالباً ما تحدث بين متضادين كحب المرأة ضعيفة الشخصية للرجل القوي أو العكس أو غيرها من الصفات  فيما تختلف الاستجابة باختلاف التكوين ..

4-المحبة الذوقية : وهي القائمة على تمثيل الذوق الحسي في الارتباط بنوع الطعام والشراب المفضل والإحساس بالجمال الطبيعي والبشري ويندرج فيها محبة الفنون والمبدعين فيها والتعاطي معها بروح التناغم والانسجام..

5-المحبةالتوافقية: وهي التي تحدث بين طرفين متشابهين في السمات وتجمعهما الأهداف المشتركة في الحياة وغالباً ما تتطور في سياق التناغم العاطفي وشعور كل طرف بحاجته للآخر وهي الأكثر ثباتاً في توثيق العلاقة..

6-المحبة التلازمية: وهي التي تنشأ نتاج لتوثيق العلاقة في سياق التلازم الزمني وغالباً ما تحدث في الشراكة الزوجيةالمتعذرة باختلاف الوفاق فيما تتطور بواقع التأقلم لتتحول إلى قوة رابطة بين الطرفين يستحيل على أحدهما الاستغناء عن الآخر ومنها أيضاً الصداقات التي تتشكل بحكم التلازم المستمر وتصبح رابطاً بين الأطراف لا ينفرط عقده..

7 -المحبة الاستلابية: وهي الأكثر شيوعاً في الواقع وتنشأ بحكم التأثير والتأثر بين طرفين أحدهما غالباً ما يتمثل القدوة والمثل الأعلى ويرتهن الثاني لصفة التابع المتجرد بدواعي الانطباع وحُسن الظن والتسليم حيث تنسجم روابط المحبة وفق معطيات العلاقة التي تجمع الأطراف مثل ذلك محبة التابعية العقائدية أو السياسية او الفكرية للزعيم أو المفكر أو المجدد للاتجاه والانقياد التام لمنهجهم في الحياة دون تفكير ..

 8-المحبة الشرطية: وهي المحبة السببية المقترنة برابط المصلحة بين الأطراف والتي قل أن تستند للمبدأ الأخلاقي بقدر ما تحتكم للغاية مثل ذلك ما أجازته الأديان قاعدة شرطية للإيمان بالرب الخالق واحتراز العلاقة لتمثيل المصلحة في نعيم الجنة والجزاء في عذاب الجحيم وعلى غرارها تجسدت النماذج والأمثلة في كثير من تجارب الواقع..

9-المحبة الأخلاقية: وهي الفضيلة الأسمى المعنية بتمثيل وحدة الشراكة الأخلاقية في التعايش  المتكافئ عِقدها نَفّسُ الرحمة الإلهية في الخلق تمثلاً بالقيم والفضائل والمبادئ السوية قاعدة وجوبية لانتظام العلاقات الروحية وانضباط قاعدة الوفاق في الحياة..

وهي في جوهر العلاقات روح الوئام وجسر امتداده دليلها في وحدة الوفاق أن المحبة أخلاق والأخلاق محبة وحكم التخلق بها تجسيد محبة الله في كل نفس قاعدة كونية لاستقامة الطريق نحو تمثيل مشيئته في انتظام قاعدة وجوده في مخلوقاته..

ودلالتها في تكوين النفس نكران الذات بالتجرد والرضا والإيثار والالتحام بالنسيج البشري الواحد عقد ائتمان الحق المتكافئ شاهداً وجدانياً يسموا بطبيعتها إلى أعلى مراتب الكمال تحققاً بملكات الجلال والجمال في تجسيد السعادة الذاتية روح امتداد الغاية ..

وبموضوعية الإشكال الزمني لاختلال موازين الحياة يتجلى بوضوح غياب المحبة الأخلاقية في سقوط القيم وانحلال الأخلاق شاهداً تتصدره النزعات التفاضلية في الفكر والسلوك نتاجاً عبثياً صاغت أحكامه  كل دواعي التفكك والخلاف والصراع واتساع دائرة الشر حتى يومنا هذا..

 وبموضوعية الفكر ونتاجه الزمني نستخلص من شواهد الواقع أن وعي الإنسان بالمحبة ظل مفرغاً بالجزئيات المقننة لوحدة الارتباط النسبي للعلاقات الفردية دون فهم المعنى كقيمة كونية متسلسلة في تجسيد روابط الانتماء الواحد وهي الإشكالية التي أفرغت القيم والمبادئ الأخلاقية من محتواها كنسيج مترابط لوحدة الحياة..

من هنا كان ما يعنينا في فلسفة المحبة مبنياً على توصيف الروابط الأخلاقية في بنيان النفس بامتداد تأثيرها على الواقع تستخلصها في المثال الكوني نسق العلاقات الممتدة لوحدة العناصر في بناء الوجود  منظومة توافقية متدرجة في التركيب والتكوين تحققت بموازين التناسب المعياري المتدرج من تشكيل جزئيات كل عنصر إلى وحدة العناصر  في تجسيد طبيعة الحياة..

فالإنسان يرتبط بمنظومة الوجود بواقع احتواء تكوينه لماهية وطبيعة عناصره التناسبية (المادة والماء والهواء والطاقة) وحدة وفاقية لانتظام حياته ويرتبط بكوكب الأرض بحكم وجوده فيه وتخلقه عن عناصره بصفة الانتماء كما تتسلسل الروابط بين الأرض والمجموعة الشمسية والمجرات بتراتب الانتماء نحو تجسيد وحدة الكون قرينة متصلة بتمثيل وحدة الوفاق لصفة المحبة مجازاً للترابط..

وقضية المحبة كغيرها من القضايا المتعثرة في إشكالية الانتظام بين تمحور الإنسان في الذات والهوية سياقاً متصلاً بتفكيك لُحمة الواقع وتجذر علاقاته الأخلاقية في النزعات المتناقضة وتداعياتها الموغلة في تمزيق وحدة الحياة ..

ومرجعية وحدة الحياة تتدرج من بناء الفرد إلى المحيط الأسري فالمحيط الاجتماعي بتسلسل تكويناته وبموضوعيتها تتجلى مفارقات الإشكال في طبيعة تكوين الشخوص من حيث تمثلها للقيم الضدية وانتظام أو انحراف توافقاتها المعرفية والروحية مع الكيان الاجتماعي وعياً أخلاقياً متلازماً مع تمثيل السلوك الفردي  والعام لوحدة وفصام العلاقات..

يعلل هذه المسئلة أن وعي الفرد يختزل عبر مراحل نشأته وتكوينه المعرفي والانطباعي علاقاته بالوجود والحياة مقاصد ارتباطية بالمطالب والحاجات المتنامية والتي تشكل بدورها تعزيز(حب الذات) قاعدة منفردة بتمثيل استحقاقها خارج إطار الحق العام ..

وفيما قد يتعذر الحصول على الحاجات بواقع الارتباط بالمحيط والوسائل والأدوات المعنية بتحقيق مطالبه تتجسد المصلحة عقدارتباط شرطي تستحضره دواعي الوفاق مع الآخر بصيغته العارضة شرط التزام آني له في تمثيل المشاعر الذاتية صفة التناغم في العلاقات وانسجامها الزمني بجدوى انتظام المصلحة الذاتية للفرد..

غير أن المسئلة قد تختلف اختلافاً كلياً إذا ما تشكل الوعي الفردي بالمحبة عقداً وجوبياً لإنكار الذات تستحضره روابط العلاقات الروحية مع المحيط بمعاني السمو ونكران الذات والإيثاروالتخلق بالمبادي والقيم والفضائل المعنية بتوطين وحدة الانتماء المتوازن واستحقاقه..

لذلك كانت المحبة الشرطية حكماً على تقييد الوسيلة أو المصلحة مرجعية بناء متشابك في تمثيل حب الذات قل أن تنسجم روابطه أو تستقر علاقاته مع احتواء حق وإرادة الآخر صلة وصل بعدم انتظام  روابط الواقع ..

غير أننا قد نجيزها في العلاقات الشرطية بدلالاتها الواقعية من حيث الارتباط بوسائل الحياة كقاعدة مفترضة للتدرج في تطبيع موجبات الوفاق على الشراكة الأخلاقية جوازها تثبيت مبدأ انتظام المصالح مرجعيةً تصاعدية لتوحيد جسور العلاقات..

ومنطلقنا في التجويز أن النفس البشرية ترتبط منذ النشأة بعوامل البقاء كقرينة وجوبية لاستقرار الحياة وغالباً ما تحتكم سلوكياتها لانعكاسات الواقع والنظم الموجهة لطبيعته والتي تمثل الركيزة الأساس لتأصيل موجبات الوفاق من خلال تمثلها للقاعدة الأخلاقية والتزام القائمين عليها بتمثيل العدالة الاجتماعية عقداً وفاقياً لانتظام العلاقات تعزز بدورها تماهي المصالح في القيم وتحلل الوفاق إلى المحبة الأخلاقية قاعدة التزام ..

6-الاستقرار

وهو عقد الثبات والسكون والطمأنينة الملازمة لانتظام العلاقات والروابط البشرية والماديةفي جدوى الوفاق على الانضباط الأخلاقي والاعتباري مجسداً بتوطين القيم السالفة الذكر قاعدة مشتركة للتعايش الآمن في الحياة ..

والاستقرار هو المطلب البشري العام منذ بداية التاريخ والقيمة المتعذرة بتقييد الواقع للنقيض في طبيعة الاضطراب وله سمة الاقتران بتمثيل التوازن النفسي والاجتماعي والإنساني للطمأنينة المتناغمة مع تجسيد العلاقات والرابط الأخلاقية للانسجام الروحي عقد شراكة وانتماء للوجود الواحد..

ولذلك ارتبط مفهوم الاستقرار بالعديد من المفاهيم والدلالات المتدرجة في تشكيل الواقع بالمقاصد والغايات الوفاقية لانتظام العلاقات والروابط المتسلسلة نستخلص ترتيبها على النحو الآتي:

1-الاستقرار النفسي

وهو الاستقرار المعلل بتمثيل التوازن النفسي لوحدة التكوين المعرفي واللاشعور الإرادي المنضبط مع تجسيد الأنا للطمأنينة والرضا والتوازن الانفعالي المنافي للاضطراب والصراع الذاتي الموجه للسلوك بعدم الاتزان في التواصل والانتظام مع المحيط  ..

2-الاستقرار الأسري

ويعلل انتظام العلاقات الأسرية على أواصر المحبة والترابط المتضامن بالالتزام الأخلاقي والمادي نحو بعضهم البعض والتواصل والتفاعل بروح المسئولية المشتركة في السراء والضراء المجانبة للتفكك والخلاف والارتهان للمصالح الذاتية..

3-الاستقرار العاطفي

وهو الارتباط الموثق بتجسيد العاطفة للوفاق النفسي والأخلاقي المعمد بانتظام العلاقة وثباتها بين الأطراف ويمتثل لثلاث حالات هي:

-العلاقة العاطفية بالجنس الآخر: وتمتثل لطبيعة الوفاق الروحي والانسجام الموجه لثبات العلاقة وانضباطها على الإخلاص والوفاء والشعور المتبادل بالمحبة المقيدة بعدم التأرجح في الخيار والقدرة على استغناء أي طرف عن الآخر.

-الصداقة النموذجية: وهي العلاقة الأخلاقية المجردة عن المصالح والممتدة عبر المراحل الزمنية وجذور النشأة أو الارتباط السببي على المحبة والوفاء والالتزام نحو الآخر يختزل استقرارها الذكريات الجميلة والاشتياق المتبادل إذا ما تعذر التواصل..

-الاستقرار الزوجي: ويعلله لحمة العلاقة الزوجية في المسار الزمني وانتظام أواصرهاعلى المحبة والوفاء والإخلاص والعطاء عقد وفاق أبدي ..

4-الاستقرار الوظيفي والمهني

وهو الاستقرار العملي المقنن بتمكين التجربة النمطية للأداء في سياق تمثيل القاعدة البيانية لتوصيف الوظائف  والمهن والأدوار وله في منظومة البناء دلالتين :

الأولى:الاستقرار الوظيفي أو المهني للفرد: ويرتبط بطبيعة التأهيل المعرفي والتجربة الذاتية للأداء بموازاة توجيه فاعليته للعطاء المتوافق مع قدراته وطموحاته فيما يتحقق الاستقرار بموضوعية وضع الرجل المناسب في المكان المناسب الرافد للارتقاء بالتجربة والأداء إلى مستوى الانتاج المطلوب بالتلازم مع تمثيل الحافز المادي والمعنوي الموازي ..

الثانية: الاستقرار الوظيفي والمهني للنظام الاجتماعي: ويرتكز على الموائمة بين المتطلبات الوظيفية وحجم الانتاج قياساً بتمثيل العدالة لتوزيع الوظائف باستحقاقاتها المبينةفي التوصيف الوظيفي وتفعيل التدوير الوظيفي حافزاً لتطوير القدرة والارتقاء ..

5-الاستقرار الاقتصادي

وهو حد الاكتفاء الذاتي للفرد والأسرة والمجتمع المنظور في التوصيف العام بموضوعية الجدوى في الحفاظ على الاقتصاد بمستوى ثابت دون تراجع..

والاقتصاد بمقوماته المادية والروحية للحياة هو المفصل الرئيس المعني بتمثيل وسائل البقاء وله بالمعيار الرياضي سمة الجذر التربيعي لإشكالية الإنسان الزمنية المتعذرة بانعدام التوازن والتكامل بين الأداء ووسائل الانتاج فيما يعتمد ثبوت استقراره على الموائمة بين الحاجة وتوجيه القدرة الانتاجية بالتلازم مع تدرج النمو السكاني ومتطلبات الأعباء ..

وسمة الاستقرار تتجلى بوضوح حين يصبح المجتمع خالياً من مظاهر الفقر والبطالة والفساد يحكمه الانضباط والتوازن والفاعلية المنتظمة للبناء ..

6-الاستقرار الاجتماعي

وهو الاستقرار المنظور بثبات العلاقات وانضباطها الأخلاقي وله حكم الارتباط بالاستقرار الاقتصادي وانتظام المصالح بين الأفراد مرتكزاً في ذلك على توثيق وترسيخ النظام الاجتماعي للعدالة المتساوية والحرية المنضبطة المقيدة بسلطة القانون ..

ويتحدد أفق الاستقرار الاجتماعي في سياق تماهي أدوات الصراع التقليدي ومسبباته وتلاشي الجريمة بوسائلها المنحرفة أو انحسارها في النطاق المحدود للأسباب العارضة..

7-الاستقرار السياسي

وهو الظاهرة التي تعلل وحدة المجتمع وانتظام علاقاته بأجهزة وسلطات الدولة وسياساتها نحوه بامتداد علاقة الدولة بالمحيط الجغرافي والاقليمي والدولي المقنن باحترام كل دولة لحقوق الشعوب الأخرى وعدم التدخل في شئونها الخاصة عقد التزام أخلاقي واعتباري لترسيخ جسور العلاقات ..

وباعتبار قاعدة التمثيل السياسي يرتكز على بناء منظومة علاقات متوازنة فالأصل في معادلة الاستقرار والوفاق السياسي يستقي معطياته الفكرية والمسلكية من ثوابت القيم والمبادئ والأخلاق ركيزة بناء ثابت موجه  للتعاطي مع الآخر بروح فضائلها..

من هنا كان سقوط المبدأ العام للفكر السياسي في حضيرة المصالح موطئاً لتجذر العلاقات واتساع دوائر التشظي والصراع على عضب جدليته وشراعه ظل مفهوم الاستقرار السياسي في التراتب الزمني عائماً في التصنيف النسبي المتغير بتغير النظم واتجاهاتها في توظيف المصالح ..

وعلية فإن محصلة الاستقرار ظلت مغيبة في التسطيح العائم للقيم والمبادئ والأخلاق تستثني توظيفها السلطات في السياق النسبي للخصوصية الآنية المفرغة باستلاب حقوق الشعوب وتضييق الخناق عليها لبناء الترسانات العسكرية تعللاً بالمخاوف والتوجس من الآخر ومطلباً للاستقرار الواهم..

7-الإبداع

وهو الملًّكة الروحية لفضيلة القدرة في التمكين والقيمة الماثلة بتجسيد الإرادة الذاتية للفرد أو المجتمع لطبيعة البناء الوفاقي المجمل بتناسب مقدرات التخلق الروحي بالقيم الآنفة الذكر وتحقق فاعليتها النموذجية  بسمة الخلق والتميز في الأداء المقنن بتمثيل حتمية التطور وسيلة للارتقاء بالحياة ..

 ويرتبط الابداع بطبيعة البناء المعرفي والقدرة الذاتية على تحليل الأفكار من حيث كونه نتاج للمفارقات العقلية بين الشخوص واتجاهاتها الذاتية فيما يتحقق بالتكامل في صناعة النظم والقوانين والمشاريع والبرامج والخطط العامة وغيرها في سياق تلاقح الأفكار..

من هنا كان الإنسان المبدع ظاهرة متفردة في التميز المعرفي والفاعلية في التأثير على الواقع ومعالجة الظروف والإشكاليات المعقدة في التجارب الزمنية تحققاً بالغاية من خلق الإنسان عقلاً متفرداً بالإدراك والقدرة على الارتقاء بمقدرات الانتظام مع الوجود مؤتمناً على  الحياة..

وللإبداع في ملكات الشخوص وعي المفارقات النسبية للتطبع المعرفي واتجاهاته الوفاقية مع الخير أو الشر تستخلصها موازين القياس بين مبدعين صاغ تأثيرهم خدمة البشرية كمخترعي الكهرباء والتليفون والتلفاز والحاسوب وغيرهم فرض تأثيرهم تهديد الحياة والإنسان كمخترعي القنبلة النووية والذرية وغيرها من أدوات التسلح..

وبين هذه وتلك تتدرج المقاييس في تراتب الابداع المعرفي سياقاً متصلاً بتحلل القيم للتوظيف المتسلسل للمقاصد والأهداف المتعارضة بدأ من ابتكار اللغة ثم الهوية والعقيدة والدين الدولة وما عكس كل منها من نتائج ومؤثرات اسدلت وعيها على تطبيع الواقع ..

 وباعتبار مقتضى الابداع قيمة روحية تحقق بها الإنسان للارتقاء بالحياة فقد كان له حكم الحراك الزمني للتطور وابتكار وسائل النهوض بمقدرات الطبيعة الكونية على عكس ما يجيزه البعض في كون التطور ظهر كنتاج للتصادم وصراع الحضارات ..

ذلك أن نشوء الحضارات الإنسانية لم يكن لها أن تتحقق بالظهور دون الاستقرار الآني الذي خلق وعياً مرحلياً صاغ بروز آفاق الابداع وتحققها بنتاج البناء ، ولو جاز تقييدها بموروث الصراع بما تمثلت صروفه من نتائج وأعباء زمنية لوقف الأمر عند تمجيد الحروب وما حفلت به من انتصارات وهزائم أثمرت  هدم وتقويض الحضارات وليس بنائها ..

ولذلك يتخلق الإبداع السوي في كل مجتمع وفق هامش الاستقرار وتطلعات البنية الافتراضية للدولة للارتقاء بمقدراتها توافقاً مع سد حاجات المجتمع المتلازمة مع متطلبات الكمال فيما يتجسد في مقدرات الشخوص كنتاج للتجربة المعرفية والاعتكاف الدؤوب لتطويرها في سياق مواكبة مستجداتها والبحث عن وسائل الارتقاء بها ..

وقد قيل عن أديسون مخترع الكهرباء أنه مر بأكثر من(2000)تجربة حتى وصل إلى اختراع المصباح  وهو الأمر الذي  يعتمد ركيزة الإرادة في الإصرار على الارتقاء بقدرته الذاتية للوصول إلى الهدف مهما كانت المعوقات..

ولذلك تعتبر الدولة معنية باكتشاف القدرات الابداعية وتشجيعها من خلال توفير الأجواء والإمكانات المطلوبة لتنفيذ مشروعاتها والاستفادة منها لخير المجتمع وهو الأمر الذي قل أن نجد له مكان في الدول النامية كنتاج للسياسات العائمة في الجمود..

وللإبداع مواطن وروافد متعددة للارتقاء بالحياة إلى جانب العلم منها الإبداع في المجال الثقافي كالفن التشكيلي والموسيقى والشعر والكتابة بشتى أنواعها ويأتي على رأسها الانتاج الفكري والبحث العلمي كأهم روافد التغيير والبناء الصحيح والتي تعزز  روح التطور والنماء الحضاري لكل مجتمع..

كما أن حاجة الشعوب للمبدعين والإبداع هي أشبه بحاجة الثمرة للماء والعقل لفكر البناء وفي غيابهما أو تغييب دورهما ما يستثني تجميد الواقع في دائرة التخلف وسيطرة الجهل والشر بمالهما من انعكاسات  جذرية على تقليص منافذ الحياة..

8-الجمال

  الجمال نبض الحياة ورونقها ونور الابداع الإلهي في خلق الممكنات صوراً وأشكال وألوان وأكوان متدرجة في التناسب والتمازج تسموا بالخيال والوجدان إلى التوحد والانجذاب والتواصل وتوقظ في المشاعر  كنان الراحة والاسترخاء من العناء..

وله في نسق التشكل بالممكنات دلالة الأثر المحسوس بوعي سماته فهو في الطبيعة نسيج الابداع في تشكيلها وانعكاسات تأثيرها وفي الإنسان ملامح تكوينه الظاهر توافقاً مع فضائل أخلاقه وله في كل ظاهرة حية أو جامدة سمة التفرد في الشكل والتأثير ..

والجمال قيمة حسية كاملة بكمال المعرفة بأنساق توافقاته ، نسبي في فهم البشر بنسبة الوعي المعرفي والحسي بدلالاته وصلته بتقويم الحياة في بناء الوجود والنفس البشرية فضيلة الارتقاء بالذوق الحسي إلى مرتبة الشعور بالكمال..

وللجمال صيغتين في البناء والتشكل هما :

1-الجمال الظاهر : وهو القيمة التناسبية للشكل المركب بعناصره الوفاقية وله ثلاث دلالات..

-الإنسان والظواهر الحية تجريداً بالشكل الظاهر للملامح والسمات الجسمانية بتوافقاتها المتناغمة في تشكيل وحدة الصورة للناظر واستشعار جاذبية تأثيرها الحسي في الاتجاه الموازي للتشخيص كانجذاب الرجل للمرأة الجميلة أو العكس أو الانجذاب للطيور والحيوانات المسالمة والتواصل معها بروح المداعبة والتأثير المحسوس..

-الطبيعة الكونية بعناصرها الوفاقية والمتدرجة من رؤية مظاهر الجمال الساحر في وحدة الكون وانسجام مجراته وكواكبه ونجومه وشموسه بألوانها المتناغمة إلى تفرد كل مظهر بخصوصيته الجمالية وصولاً للتشكل الطبيعي في كوكبنا ومناظره الخلابة والتي تبعث في النفس روح الانتماء..

وعلى نفس القياس يتشكل الجمال في كل عنصر من عناصر الطبيعة ومنها الزهر والنبات والشجر والحجر فتأسرنا الورود بألوانها وروائحها الزكية والخضرة والماء والغابات والجبال وألوان الحجارة إلى غير ذلك من صور الجمال..

-ابداعات الإنسان : وهو النتاج الزمني للمعرفة والأداء والغاية من خلق الإنسان عقلاً مكلفاً بالارتقاء بالحياة إلى مصاف القدرة الكونية في خلق الوسائل الكفيلة بتحقيق سعادته وانتظام علاقاته ..

من هذه الابداعات حضارة العمران والتخطيط المدني والصناعة والزراعة وعلوم الطب والفلك والطبيعة والرياضيات والعلوم الإنسانية والقوانين والنظم وغيرها التي صاغت جمال الحياة بمعانيها السامية ويتطلب بذل الجهود للارتقاء بها إلى مصاف الغاية..

2-الجمال الباطن: وهو الجوهر الروحي لموازين البناء الوفاقي تستحضره نفس الدلالات بطبيعة التأثير الموازي تفصيلاً في  الآتي:

-النفس البشرية مضمرة باختزال اللاشعور للذوق والحس الجمالي لقيم وأخلاق التعايش في الحياة  والارتقاء بها نحو تمثيل الوفاق مع الوجود وهي في الإنسان حصيلة بناء قد تختلف مع سمات الشكل الظاهر وفي الحيوان طبيعة غريزية مفردة بخاصية من خواص التأثير المقترن بسمات تكوينه كوفاء الكلب  وقوة الأسد وشدو العصافير وذكاء الدولفين وغير ذلك..

-عناصر الطبيعة الكونية بما لها من خصائص مؤثره في سمو وبناء الحياة وتشكيل توافقاتها الروحية وانعكاساتها على وجودنا كأشعة الشمس بما لها من سمات ومؤثرات ومثلها الماء والهواء واليابسة ومثلها تتناسب جماليات العناصر المركبة بمستوى دلالات تأثيرها الإيجابي ..

-ابداعات الإنسان الفكرية كالفنون والآداب بمختلف تصنيفها التي ترقي بالذوق الحسي إلى الشعور

بجمال الحياة ورونقها وتضفي على النفس روح السمو والتسامي ووحدة الانتماء ..

فالموسيقى والشعر والرسم والمسرح وغيرها ليست مجرد وسائل ترفيهية كما يصنفها البعض بقدر ما تمثل رسالة بناء يسترقي بها الوعي روح الانسجام والتناغم الوجداني مع جوهر الحياة ..

من هنا كان الجمال ضد القبح بمجازاته العشوائية للتشكل والأداء ركيزته الروحية توحيد المشاعر على الانتماء وعقد مشروعيته موازٍ للأبداع في بناء القدرة بتمثيل بناء الحس الذوقي بجمال ونعمة الحياة وجوباً للارتقاء بالروح البشرية إلى أعلى مراتب السعادة الحسية تستحضره توافقات التخلق المعرفي  بمعاني الجمال المعنية بتحقق الوعي  بالفهم  السليم والسلوك المتناغم للبناء..

وكون الإنسان معنيٌ بالارتقاء بوعيه الحسي فهو بذلك ملزماً بتجسيد وعيه على أرض الواقع من خلال توجيه قدراته الحسية بمعاني الجمال للبناء العاكس لأحاسيسه في تشكيل الطبيعة ومقدرات الحياة على النسق الجمالي المطلوب لتحقيق الاستقرار النفسي للفرد والمجتمع ..

وفي ذلك ما يعني أن بناء الحس الجمالي في الإنسان أشبه بالعمران أرضيته النفس وقاعدته التنشئة ومخططاته التناسب الوفاقي للقيم ومادته الفكر ونسقه التوازن ووحدة البنا تجسده الشخصية وعليه يتماثل التشخيص في الانعكاس والتأثير.. فشكلها الظاهر يعكس الحس الجمالي للشارع العام بموازاة مظهر الجمال أو القبح للذات وتنسيقها الداخلي يعكس روح الجمال المحسوس بطبيعته أو الكآبة المتعذرة بالعشوائية المطابقة في النفس للوفاق والانتظام أو انعدام التوازن والانحراف وعلى ذات المعنى يقاس التخطيط المدني للعمران بتركيبة المجتمع وسلوكه العام..

ولهذا تستخلص قضية بناء الجمال في النفس الركيزة الأساس لوحدة القيم والأخلاق في بناء وتوجيه سلوك الذات للتفاعل مع المحيط وفق فضائلها.. فالهندمة والنظافة تعكس سلوكه المتحضر في الحفاظ على نظافة البيئة والشارع العام والخلق الكريم يعكس وفاقه النفسي في محبة الناس واحترامهم لشخصه والاقتداء بسلوكه وهكذا دواليك..

9-السعادة

نحن نعيش معترك الحياة بحثاًعن لحظات السعادةفي مخاضهافنختزل الجهدوالبذل والعناء والصراع والخلاف والاختلاف لتذليل العقبات والبحث عن سبل الخلاص من تناقضات تداعياتها.. ونتعبد للرب طلباً للرحمة والغفران مما صنعت أيدينا وتوسلاً لنعيم الجنة وسعادتها ولا نرى من الوجه الآخر أن بناء السعادة في النفس قيم وفضائل وأخلاق هي سِفر الجنة ونعيمها..

لذلك كانت السعادة هي الهدف المنشود لاستحقاق وجودنا صلة وصل بتفاعلنا مع الحياة في حصيلة الوفاق والبناء، ولها في ميزان القيم عقد وحدتها في الغاية مطلباً كونياً يسترقي انتظام التناسب الوفاقي لوحدة البناء ..

وقيمة السعادة هي الصفة الجامعة لفضائل الوجود والحياة من حيث تمثيل الغاية فهي في كل فكر هدفه وفي كل نفس بساط وجهتها وفي العلاقات ضميرها وفي القيم كمالها وفي بنية الكون انتظامه وفي جوهر الحياة  غايتها..

وهي روح الجمال في إحساسنا ودان اللذة في رغباتنا وجوهر الأمان في تحققنا وهي عقد المشيئة في تكليفنا سفرها نظام جامع ودليلها قيم وفضائل وأخلاق وقواعد وظيفتها تهذيب النفس بالموازنة بين الطبيعة والمعرفة وجوباً لتوحيد النفس بالعقل وتحقق الروح بالحس الجمالي للوفاق المنضبط دليل انتظام الكيان مع الوجود في الغاية..

وتفسير المعنى أن الأساس في خلق الإنسان هي الطبيعة الحيوانية المقيدةبالحاجةلإشباع رغبات النفس المتنامية كما أن الأصل في التكليف هو التحقق بالعقل قاعدة للمعرفة بالخير والشر اختزلتها الصفات والأضداد وكان لها حكم الائتمان والتوجيه المضمر بمعاني وجود الله جاز بأحكامها تطبيع النفس على الانضباط مع قواعده  وتوجيهاته توثيقاً لوحدة الكيان ..

ووحدة الكيان تقوم على ثبات وانتظام الوظائف ودور كل منها في تمثيل النسق الواحد للبناء فالعقل هو صلة الإنسان بالوجود وقوانينه والنفس صلة العقل في التحقق بمخزونه المعرفي قاعدة حسية.. غير أن النفس إذا ما تجردت عن الضابط العقلي للموازنة والتوجيه تصبح الإرادة مع التجربة المتراكمة بديلاً للعقل تحكم توجيه الذات بدوافعها الآنية فيما يتحول العقل إلى مجرد أداة لتسجيل وخزن المعلومات  العشوائية تنحصر وظيفته في استرجاع متطلبات الشعور اللاإرادي  وتوثيق معطياته..

وهذا التحول بدوره هو الذي يرسي بناء الكيان على التناقض والصراع الذاتي ويحكم تقييد النفس بالتفكك وانعدام التوازن المؤطر بانحراف الوظائف وتماهي سيطرة الرغبات واحتوائها لضيق الأفق الحسي بمحاذيره وأعراضه ..

ولذلك حين نسترقي تحقيق السعادة في المقاصد والأحلام والأوهام والرغبات دون تمثيل الموازين والضوابط تستحكم بنا دوافعها ونصبح أسرى جنوحها عبيداً لسلطانها مسيرين بتداعيات ظلاميتها في نفوسنا وشرورها قل أن نجد عنها فكاكاً أو خلاص..

مثل ذلك يختزل الوعي الحسي معاني السعادةفي المتعة والراحة والشعور بالأمان المقدرة بوسائل التمكين كالترف المعيشي والجنس والاستقرار النفسي على الرضا فيما تتدرج المعوقات في تمثيل العناء بصوره  العامدة بتفكيك المصادر الثلاثة حيث يتعذر الترف بالمستوى المحدود للمعيشة ويتعذر إشباع الرغبة الجنسية بعدم الوفاق مع الرغبة ويتعذر الاستقرار بالقلق والصراع بين الارادة والقدرة ويصبح الشعور بالسعادة محكوماً بالأحلام والأوهام العارضة للإحباط وانعكاساته..

من هنا كان التحقق بالسعادة بناء وفاقي يؤطر وحدة الذات بطبيعته الحسية وعياً وتفاعلاً وسلوك مثالة في التشخيص تجسيد اللفظ للمعنى دليلاً على ماهيته وسمات معطياته كالجوهر الثمين بمزاياه وخصائص تكوينه تختزل قيمته وحدة عاصره وثباته..

وباعتبار أن الإنسان عرف السعادة عن طريق الوسائل فالأصل في معادلة الوسيلة هي تناسب الخير والشر في معطياتها من حيث تمثيل الخير لترابط البنية والشر لتفكيكها وحدتها وتلك يستقيها الوعي من مظاهر وظواهر الوجود المتدرجة من الانتظام الحسي إلى أدنى درجات التفكك المتناقض..

وتلك المظاهر والظواهر غالبا ما تتشكل بوعي النظام الاجتماعي ومعطياته الزمنية المتشاكلة بتمثيل التفكك الطبقي والعقائدي والعرقي والثقافي والاقتصادي والسياسي المعنية بتشكيل الواقع المتناقض..

من هذا الأفق اختزلت قضية السعادة محيط الإشكال الزمني لتفكيك قيم الحياة والمعضلة الرئيسة لفلسفة الفكر الديني والسياسي واجتهاداتهما القياسية في تحديث نظم الحياة وقواعدها وفق تجريدات الواقع والتي خلصت في نهاية المطاف إلى معالجة المعوقات الظرفية لاتساع دوائر الشر بابتداع الدين لفكرة (الجنة والجحيم)في العالم الآخر رديفاً للسعادة والشقاء في الدنيا استرقت بتوظيفهما استلاب الوعي بالترهيب والترغيب واعتماد الوهم لتوصيف الأكاذيب عقد تطويع فرض امتهان حق الإنسان في السعادة في الحياة بالاستحقاق العائم في طوفان الغيب ..

 ومن أبلغ الأكاذيب التي استرعت توظيف الاستلاب وتوجيه الشباب ومقدرات الشعوب لمحارق الموت والدمار دفاعاً عن الدين وصراعاته الشيطانية فتاوى وتأويلات منها أن الشهيد في سبيل الله تستقبله في الجنة حور العين ذات الجمال الذي يستحيل وصفة فيختار منهن من تاقت إليها نفسه فينعم بمعاشرتها  في اللحظة الواحدة  بزمن قياسي يعادل سبعين عاماً من حياته الدنيوية لا يكل فيها ولا يمل !..

أما صفة الجنة فهي بعرض السموات والأرض وبها ما لا عين رأت ولا أذن سمعت أنهار من عسل وخمر ولبن لا تنضب وفواكه وأشجار وثمار لا توصف ينعم الوافد اليها بحياة ممتدة واستقرار دائم ..

هذا التوظيف برز في ظل عجز الدين والدولة عن فهم ومعالجة قضايا استقرار الحياة وانتظام علاقاتها المعنية بتوحيد الإرادة والقدرة للارتقاء بالوجود إلى مصاف الجنة تجسيداً للسعادة الكلية صلة وصل بتحقق البشر  بوعيها الحسي ينتظم بها وجودهم في الحياة وما بعد  الحياة..

وهو الأمر الذي لم يستثني توظيف الربوبية وتشكيلها قواعد خصومة وافتراق عمد تجسيدها للشيطان في كل صورة قادم فتنة جزئت الإنسانية الواحدة باستحقاق دعاتها وصاغت تثمين الشقاء والقتل والهدم رسالة حياة لاستحقاق الجنة..

فمن شرع العبودية لله مقصداً لبلوغ السعادة في تبعية الدين دون التزام التحقق بقيم وجوده زانت طاعته تقييد عبوديته للدليل وسيلة العليل لا يرى منها سوى ما يرى العبد من المالك في الإدانة والتسليم حكم استحقاق ما تشكل بوعيه وأضمره الاستلاب غاية الضليل..

ومن حكمته الوسيلة دان السعادة سقط في شباك غوايتها بيدقاً تحركه مقاصدها وجهة الشقاء المقيد بانحرافاته طوق عبودية وسفر مطية جانحة السبيل ..

ثانيا:  الأخلاق

بين شتات الواقع وانحرافاته نعيش كهنه وعياً وتجارب زمنية معقدة نسترسل في  استلهام موروثها التقليدي نزعات ودوافع وأهواء ومقاصد وأهداف وأمراض اجتماعية قل أن نمنح عقولنا لقراءتها قليلاً من الوقت للتأمل والتفكير في سلوكياتها وانعكاساتها على حياتنا ما نسترجع في منحنياته بقايا إنسانيتنا تيمناً باحتواء العارض سبيلاً للتغيير..

ولو امعنا النظر فيما آل إليه الواقع المعاش من تمزق وشتات وصراع وفقر وفساد وبطالة وتخلف وأمراض ومفارقات اجتماعية ومعضلات ومشاكل وأخطار واستشعرنا بروح القيم أطياف كلالها لوجدنا الأسباب والعلل في سقوط الأخلاق وتلاشي جلال كهنها في تماهي روح الإنسان بين مستنقع الحيوانية والاستلاب والجمود مطية الواقع  في جنوح سفينته..

فنحن نتطبع بفكر الموروث الزمني ونتخلق بأخلاقياته فنختلف ونتصارع ونقتل بعضنا بعضاً انتصاراً للعصبية دون دراية أو فهم  لكهن الحق من الباطل أو الصواب من الخطاء والصدق من الكذب قياساً بقيمه ومبادئه وأخلاقياته حتى أصبح الفاسد وقاطع الطريق والخائن والطامع والجاهل فينا هم القدوة التي تنحني لها الرقاب وتتسامى بعصمتهم أشطان العزوة والنفاق والضلال..

وتحكمنا المصالح في التعاطي بأخلاقياتها فنجيز في السرقة والاحتيال والرشوة والفساد والنهب والارتزاق والاستغلال والاستعباد والجشع والكراهية والحقد والفتنة والصراع والبغي والقتل حكم القاعدة الطبيعية للحياة ..

وحين تعصف بنا النوازل والظروف والأحداث والهموم نتوسل بالدعاء والرجاء إلى الإله الذي تأصل في عقائدنا طلباً للفرج والرحمة دون إعمال العقل في فهم حقيقته واستدراك الملابسات الذي جزئت معاني وجوده نصوصٌ وشخوص وأديان وعقائد صاغت شيطنته باحتواء لاهوته قداسات متفردة في الحق فرضت تخلق التابعية  بنوازع الفكر وأخلاقياته ..

وتلك هي الأخلاق التي امتهن بها الإنسان كرامته وحياته وساس بها وجوده وعلاقاته ومبادئه وقيمه رسن جلال الخطيئة في شتات العاثر وهم البقاء..

وباعتبار فضيلة القيم بناء فالأخلاق هي ركيزة بناء القيم وعقد انتظامها ولها في الدلالة المجازية للمعنى صفة(السياسة)منهجاً وصفياً للتعاملات يستحضره منطق تسييس وتوجيه العلاقات الفردية والمركبة وتخلق الوعي العام بمبادئها..

وماهية الأخلاق قواعد وروابط مساعدة لترسيخ القيم وظيفتها توطين مبادئ التخلق بالأسس الضامنة لتوثيق العلاقات وانسجامها كالحكمة والوقار والوجاهة والاقتدار والبيان والمنطق والحضور والتواضع والتسامح والقوة والعزة والسمو والعصمة في ثوابت التخلق بالحق والأمانة والفهم والصدق والتحقق والتثبت والالتزام في قواعد العلم والاستقامة والشرف والنزاهة والعفة والاعتدال والتروي والتقصي والتجرد والانضباط في التخلق بالعدالة والجد والاجتهاد والرشاد والاختبار والاختيار والمنفعة والجرأة والشجاعة والإباء واحترام حق الآخر في أحكام وضوابط الحرية والرضا والقناعة والصبروالشكر والإيثار والرحمة والوفاء والعطاء والسكينة في روابط  الأمان والتسامح والتعايش والترفع والمبادرة والوفاق والشراكة والتجانس والتواصل والتضامن والتعاون والتكامل في مقاصد السلام والمودة والنبل والشهامة والاحترام والعطف والإخلاص والتراحم والتقارب والتجاوب والانسجام والترابط والتلاحم في روابط المحبة وهلم دواليك ..

وللأخلاق في فضائل التخلق والتفاعل عقدالانضباط الوفاقي لمنظومة العلاقات الفردية  والمركبة في قواعد ومنظومات التشكل الاجتماعي تفرض سلوكياتها توحيد الانتماء الروحي صلة وصل بتحرير الوعي من الارتهان للمقاصد والغايات والنزعات والدوافع والالتحام بالإنسانية الواحدة..

ولها في تشكيل طبيعة النفس سمة المقوم والركيزة البنيوية للانتظام المعنية بتمثيل التوازن الباطن الموجه للانفعالات والتفاعل بسياسة الوفاق والانسجام بين الأفكار بمقاصدها الافتراضية لمنظومة العلاقات والروابط  مع المحيط يجسد وعيها لسان حال الضمير الأخلاقي..

ومرجعية الأخلاق  في بناء وانتظام قاعدة الحياة لا تنحصر وحسب على سمات الشخوص  بقدر ما تؤصل أيضاً عقد الوفاق التناسبي لترابط الفكر في تشكيل مقدرات البناء تستخلصها موازين الانسجام بين الأفكار مثل ذلك الفرق بين الصدق والكذب والخطأ والصواب في التخلق بفكرة ما وانعكاسات كل منها على طبيعة الإنسان والواقع ..

إذ تحيط الفكرة الصادقة بترابط مفرداتها وانسجام وحدتها بحيث يرسم وعيها سمة الانتظام بثبوت التحقق المقترن بأخلاق الناطق بها فيتناقلها الناس قيمة يقتدون بها علماً وعملاً يؤطر انسجام الواقع وتوافقه عليها تسليماً بجدواها كالقول في الخبر المسموع أو المنقول(الصدق ما توافق مع العقل حجة وبيان)و(العمل الطيب من فضائل الأخلاق الكريمة)و(الحكمة ضالة الجاهل) و(التواضع سمة الكامل)و(الصبر فضيلة الأمان)و(الشكر عقد الوفاء والامتنان) ..

وعلى العكس إذا ما قام أحدهم بتوظيف مقولة أو بنقل أكذوبة على لسان مفكر أو عالم أو نبي يتمثل القدوة منها على سبيل المثال الأحاديث النبوية المروية على لسان المحدث بتواتر الرواة والتي بلغت ما يتجاوز السبعين ألف حديث وتم اختزالها إلى ما يقارب الثلاثة آلاف حديث وتعميدها على لسان الرواة الكاذبين إسناداً صحيح النقل..

وفي قياس صحة المقولات وبطلانها نأخذ على سبيل المقارنة الحديث المروي بتواتر النقل  على لسان الرسول قوله(اختلاف أمتي رحمة)وهو حديث يشرع للفتنة والانقسام تحقق بمشروعيته الخلاف المذهبي خلافاً للحديث القائل(سيأتي زمان تنقسم فيه أمتي إلى ثلاث وسبعين فرقة كلهم في النار) وزان تصريفه إلا فرقة واحدة قيل ومن تكون يا رسول الله قال من كانت على ما أنا عليه اليوم وعلى فيء التصرف جاز لكل مذهب أن يدعي ثبوت الحق له ..

وفي ذلك لو جاز ثبوت الصدق في المقولة نسبة للقدوة وغايته في توحيد أمته لقال(اختلاف أمتي فتنة)وكان التثبت بمصداقية الناطق قائماً على تمثيل الهدف بتوحيد أمته على دينه تشخيصاً للعرف السائد بأن كل دين ما جاء إلا ليوحد الناس على منهجه كما أن حكم الاجتهاد فيه دليلا على القصور والنقص ..

يعلل هذا القياس موجبات الأخلاق في سند التخلق بالفكر حيث تشخص الأكذوبة تخلق الناس بسلوكه المنحرف نتاجاً طبيعياً لتناقضاته وانعدام توازنه وثباته وهو الأمر الذي يبرره التابع لكل دين بالخروج على النص الديني ونراه ثابتا في الفكر والنص لسان حال الكيان الديني المجزأ بتمثيل التبعية للدين في محيط الافتراق المذهبي والارتهان لاجتهاداتها في التأويل حيث يستحيل أن تجد فرداً يؤمن أو ينطق بلسان الدين دون أن يكون عقد التزامه لفكر وعقيدة مذهب شق وحدة الدين..

وهو ما نقصد به أن صحة المنهج سنده ما تشكلت به أخلاق وسلوك تابعيته واقعاً مضمراً بنسيج العلاقات والروابط والقيم التي تجمعهم على التسليم بحقيقته خلافاً لما يجوزه بعض الملتزمين في كل دين بأن الانقسام الديني سببه الخروج عن النصوص والأحكام الإلهيه والاحتكام للمصالح ولو جاز ثبوت صحة النص وبيانه وكماله لما افترق حوله المفسرين وتعددت الاجتهادات والتأويلات والانقسامات تحققاً بقيمه وسلوكيات قيمه وأخلاقه ..

وهو الأمر الذي لا يراه المنتسبين لكل دين في افتراقهم حول الإله الواحد وتجزئته في النصوص والشخوص والعقائدالمتنازعة على احتواء وجوده عارضاً موازياً لتفكيك القيم والأخلاق بوصفها قاعدة وجوده تماثلت في الانقسام والتشظي في كل دين..

وجل ما يعنينا في هذا الصدد أن فضائل الأخلاق لا تنحصر وحسب على السلوك الفردي في  التخلق بالسمات الحميدة وإنما هي بمجمل تفاصيلها الدقيقة نسيج بنية مترابطة وجوبها تأطير الوفاق قاعدة محكمة البناء لتوحيد منظومة للعلاقات المتسلسلة تختزل كلٍ سمة وظيفتها الخاصة في تقييد أحكام الانضباط والانتظام في تعاملات الحياة نستعرض منها حسب الأهمية القرائن التالية..

 1-الحكمة

وهي نور البصيرة والقيمة الأخلاقية الأسمى في مراتب الحق فضيلتها تحقق العقل بالقدرة على الموازنة في استقراء الحقائق والتحكم الواعي بانفعالات النفس ومقتضيات التفاعل مع الأحداث ..

وللحكمة في التصريف اللغوي قياساً ضمنياً دلالتي حكمة المعرفة في المعالجات الفكرية ورجاحة العقل في صفات الإنسان المؤتمن على فهم وتصريف شئون الحياة ، فمن اتصف بها صار ثقة في الناس تحققاً بروح القدوة المرجعية لحل خلافاتهم وإرشادهم إلى الخير والطريق المستقيم للحياة..

وللحكمة عقد الارتباط ببيان الكلم وفصاحة اللسان تحققاً بالقبول والقدرة على التأثير ترتسم فيها قوة الشخصية بسمة الهيبة والوقار والتواضع والترفع رابطاً للسمو بعزة النفس يتقمص جوهرها الروحي رداء العصمة في نقاء السريرة وصفاء الضمير والإرادة بالانضباط والتجرد الكامل عن الجنوح  والانحراف..

والحكيم في المجتمع هو العقل المستنير والفيلسوف والعالم والمفكر والواعظ وقد يكون من عامة البسطاء ممن ينئون بأنفسهم عن الظهور والاختلاط غير أنك تجدهم في حياتهم الخاصة يتمثلون تلك السمات في سلوكياتهم وتعاملاتهم في الحياة..

وحين نبحث عن أسباب التخلف والركود وانتشار الجريمة والظلم والفساد والتفكك والصراع والاستغلال والقهر والاستعباد وغيرها من الأمراض الاجتماعية قد نجد العلة الفاصلة بين الجمود والإصلاح شاهد غيابهم أو تغييبهم كما هو الحال في أنظمة الدول المتخلفة وسياسات حكامها..

وباعتبار الحكماء هم عقل الأمة الراجح وقلبها النابض بالفضيلة فقد كانت حاجة الشعوب عامة لهم ضرورة حتمية تستوجب تمثيل ركائز النظم والسلطات بالقدوة كمرجعية للائتمان المستحق بفضائله ومعطياته..

 2-الأمانة

وهي في العلم عقد الائتمان الواجب في احتراز النفس للحق والتجرد من النزعة الذاتية بتحري الصدق في الاستشهاد والإسناد والتثبت باليقين المعرفي والالتزام بتوجيه العلم للخير والمنفعة العامة قياساً بالجدوى..

والأمانة على عكس المكر والخيانة في تعاملات الحياة ، ولها في تقويم سلوك الفرد حكم الفضيلة الروحية المجسدة بالضمير الأخلاقي المعني بتمثيل عقود الوفاء بحق الغير كالدين أو الرهن أو الشيء المؤتمن عليه وجوب استحقاق استرجاعه أو الوفاء بالتزاماته وواجباته..

 ولذلك كان الشخص المتصف بالأمانة مصدر ثقة بين الناس تمثلاً للأمان في الحفاظ على أماناته وعدم التفريط بها أو التصرف بالتحايل أو الإنكار للشيء المؤتمن عليه ينطبق عليها عقود الائتمان على الوظيفة العامة والخاصة أو المسئولية المؤتمن عليها في تصريف شئون الناس ..

ومثلها الأمانة في أداء الإنسان لمسئولياته نحو وطنه ومجتمعه واسرته وأبنائه والوفاء بواجباته والتزاماته تمثلاً للانضباط .. ذلك أن الوطن أمانة في أعناق مواطنيه تستوجب على كل فرد حمايته من فساد الاستغلال والظلم والقهر والعبث بمقدرات الشعوب وامتهان كرامة الإنسان بدأً بالمشاركة الأمينة في اختيار ممثليه في النظام السياسي بامتداد الانضباط في احترام حقوق المجتمع والمعرفة بالتنشئة الصحيحة للأبناء والتفاعل الأسري والاجتماعي البّناء وانتهاء بالحفاض على نظافة البيئة والتحضر المدني بتسلسل موجباتها الرافدة لانتظام الشراكة في الحياة.. 

3-الصدق

وهو باب المعرفة الحقة وفضيلة الأمانة في التخلق بثوابت الانتظام وضد الكذب والتحريف تحققاً باليقين المعرفي ارتبط بالعلم سمة أخلاقية فاصلة في التحقق والقياس من مصداقية النقل والإخبار أو التبليغ والرواية عن لسان الغير ..

مثل ذلك ما ورد في التبليغ على لسان الرب وتجزئة قاعدة وجوده رسالات سماوية مختلفة جاز بها توجيه مشيئته في نظام الحياة على التناقض والافتراق والصراع شرع فتنة ممتدة استرقت تقييد مصداقيتها بالإيمان عقد التزام غيبي حكمت قيوده تطبيع اليقين..

وحكمة الصدق تستنطقها مفارقات الأكذوبة المستنسخة لتوظيف الربوبية في كل دين وشخصنتها بمصداقية المبلغين والتي فرضت انعكاساتها على واقع الإنسان والحياة سفراً من التمزق والانحلال والتخلف والجمود ونزيف الدم والدمار وتوارث الكراهية والأحقاد خلال المراحل الزمنية المتتابعة وحتى لحظتنا الراهنة ..

إذ لولا الافتراق حول قيم الإله الواحد وشيطنتها في تجزئة الوجود والإنسانية الواحدة ربوبيات وهويات ومناهج وحدود جغرافية ومصالح لما تحقق الشر بتلك القوة في الانتشار والتربع على عرش الحياة ..

 والصدق في تعاملات الحياة ركيزة أساسية من ركائز الانتظام نستخلص قراءاته العكسية على سبيل المثال من السلوك الإعلامي للسياسات واتجاهاتها لتطبيع الأكاذيب في الوعي العام كتجريم الشخوص المناوئة لها وخلق المبررات والادعاءات حول عجزها وقصورها في الأداء بامتداد مسئولياتها وواجباتها نحو المجتمع..

وهي في العلاقات الاجتماعية كثيرا ما تتعزز بواقع الجهل والتغطية المضمرة بتخلق الوعي العام بالفكر المتشابك ولها في كل حالة نسبة التطبع بأخلاقياتها مثل ذلك اعتداد المجتمع المتخلف بحضارة وتاريخ الأجداد لتغطية واقعه ..

وفي علاقات الفرد بالمحيط غالباً ما تصدر عن صعاف الشخصية وحاجة الفرد للفت الأنظار وتغطية عيوبه تيمناً بجهل من حوله بحقيقة ما يقول.. فيما يصبح الإنسان الكاذب علامة مميزة بين الناس بانعدام الثقة ..

وجل ما نصل إليه في هذه المسئلة أن التخلق بالصدق من أسنى وأقوم الأخلاقيات المعنية بتمثل النفس للوفاق والانضباط وتحقق المجتمع بالانتظام ..

4-الجد والاجتهاد

وهما في الفكر من لوازم الحرية في تحقق الإرادة بجدية الالتزام والركيزة الأخلاقية المعنية بتمثيل الاجتهاد قاعدة معرفية للارتقاء بالعلم وتفكيك معضلاته يعتمد الرشاد سمة ظهيرة للتخلق بالاتزان والاعتداد بالنفس تحققاً بالجرأة والشجاعة الأدبية في الإصرار على تحقيق المنفعة سبيل امتثال..

 والجد والاجتهاد ضد الهزل والإهمال واللامبالاة والتي تحكم قياد النفس بطبيعة الهوى وعدم الالتزام  واعتماد الحرية وسيلة غير منضبطة تسترقي العشوائية في التفاعل وعدم التقيد بواجباتها نحو  الغير والمجتمع أشبه بالبوهيمية الحيوانية في نظرة الشخص للحياة..

وتلك على خلاف التخلق بجدية الانضباط وبذل الجهد والتي غالباً ما تخضع للمبدأ في تكوين الشخصية وتجربتها الزمنية في التفاعل مع المحيط حيث تجد الإنسان الجاد دقيق الالتزام بوعوده ومواعيده وترتيب حياته وعلاقاته منضبطاً في أداء واجباته يسوس اتجاهاته في الحياة احترامه لذاته ..

وتلك السمات كثيراً ما نجدها واسعة الانتشار في أوساط الشعوب المتقدمة والتي أثمر جهدها تحرر العقل الإبداعي من رسن الجمود والارتقاء بأدائها وانتاجها إلى خلق وسائل وأدوات التطور الحضاري الرافدة لتحقيق الرفاة  للإنسان ..

وعلى العكس من ذلك نجد اللامبالاة والإهمال في أخلاق الشعوب المتدنية هو السبب الرئيس في التخلف والجمود العارض بدأً من تركيبة الساسة والحكام والسلطات وعدم التزامهم بواجباتهم نحو الشعوب إلى المثقفين والقدرات العلمية وحتى أدنى شرائح المجتمع من حيث التخلق العشوائي بطبيعة الواقع ..

لذلك غالباً ما نجد الحكام والساسة يتمجدون بمنجزاتهم الوهمية عارض استرقاء البقاء فيما يتعلل المثقفون والقدرات العلمية بالقهر والظلم والإسقاط على المؤامرات الخارجية وخيانة الحكام دون تمثيل الالتزام بمسئولياتهم الأخلاقية نحو أنفسهم وأوطانهم وعلى منوالهم تسير الشعوب خبط عشواء ترسوا بسفينة الحرية على شواطئ الانقسام والصراع والارتهان للتخلف بأمراضه المستشرية..

5-الاستقامة

وهي عقد الالتزام الفردي والعام في موجبات الانضباط الأخلاقي ارتبطت بتمثيل العدالة من حيث الشروط اللازمة لتولي المسئولية(الشرف والنزاهة والعفة والتجرد والاعتدال والتروي والتقصي)في جدوى اختيار القائمين عليها وتمثلهم للشروط قاعدة وفاقية لتحقيق المساواة في الحقوق والواجبات شريعة ثابتة للانتظام ، غير أنها في السياق العام قاعدة أخلاقية يلتقي حولها الوفاق الاجتماعي تستحضرها دلالتين :

الأولى: استقامة الفرد في سلوكه وأدائه وتفاعلاته نحو تمثيل واجباته في الوظيفة العامة بامتداد علاقاته الوفاقية مع المحيط .

الثانية: استقامة الأعراف والتقاليد على الانضباط الأخلاقي والتفاعل المشترك في رفض ومواجهة الانحرافات كالسرقة والعدوانية والنصب والاحتيال وهتك الأعراض والزنا والغيبة والنميمة وشهادة الزور والرشوة والفساد وغيره.

وعليه تختزل الاستقامة معنى ميثاق الشرف في التعامل قاعدة وفاقية للعلاقات المنضبطة تستوجب التزام كل فرد باحترام حقوق الغير، فيما يساوي غيابها أو تغييبها تفشي الأمراض الاجتماعية بمجمل انحرافاتها المتجذرة  في الواقع ..

ولو بحثنا في واقعنا اليوم لوجدنا الانسان المستقيم ظاهرة نسبية في العالم المتقدم تكاد تكون  في المتوسط كنتاج لتطور التعليم والتنشئة التربوية ونادرة في مجتمعاتنا المتخلفة.. وفيما لو وجدت بعض الحالات تجدها في الغالب تتقمص في الظاهر ثوب الاستقامة وفي الخفاء خلاف ذلك ..

6-الرضا                 

وهو رديف القناعة وضد الجشع وبساط التخلق بالأمان تختزل طبيعته تحرير الإرادة من الرغبات والأطماع صلة وصل بتمثل الصبر على البلاء والشكر على نعمة الكفاية تخط فضائلها تجسيد المقاربة بين المفارقات سمة الرحمة بساط الإيثار تحققاً بالوفاء والعطاء تسترقي معطياتها توطين السكينة روح انتظام..

من هنا يتمثل الرضا أهم الفضائل الأخلاقية المعنية بترسيم وحدة العلاقات على الشراكة المتضامنة وتحرير النفس الأمارة من الجشع والأطماع والاستغلال عقد انضباط وفاقي والتزام أخلاقي نحو النفس والغير تعكس فاعليته توافق المجتمع على الاستحقاق الواحد للأمان..

وفضيلة الرضا في جذور الوعي البشري تكاد تكون منعدمة أو محدودة في نماذج قد تعد بالأصابع ممن بلغوا من الاستنارة المعرفية فهم النفس وارتباطاتها العائمة في المقاصد الدنيوية وتجاوزوا بوعيها شائنة السقوط في مستنقع الأطماع ..

ولذلك نجد شريان الجشع ممتداًفي كل مفاصل الحياة متجذراً في عمق الدين والسياسة والاقتصاد والعلاقات الإنسانية والاجتماعية والأسرية حتى بلغت من الإنسان مبلغ المرض المستعصي علاجه ..

وهو رأس الشر المتنامي على أرض الواقع ومن أهم الإشكالات والعوائق الأخلاقية التي فرضت تطبيع النفس البشرية على الانحراف بشتى تداعياته واتجاهاته بحكم الارتباط بمقاصد الحياة ..

فهو في الطموح سبيل أهدافه وغاياته وفي الحاجة دليل انحراف الوسيلة وفي التجارة رسم الاستغلال وفي الصراع وجه الاستحقاق ..

وحاجة الإنسانية لانتظام الرضا في تعاملات الحياة كحاجتها لتطهير الواقع من مفاسد الشر وانتظام الخير في موازين العلاقات والمقاصد بموجباتها وركائزها المستقيمة..

7-  التسامح    

وهو القيمة الأخلاقية الرفيعة للتعايش الآمن في ركيزة التخلق بالسلام عماده الترفع عن الأحقاد والأطماع والأحلام المريضة والصغائر والتحلي بروح المبادرة وصفاء الضمير تحققاً بالامتثال للحق الواحد في الشراكة الكونيةعقد وفاق يسموا بالنزعات الذاتية إلى نبذ الخلاف والفرقة والشتات والنزاع العدواني والتعاطي بروح المسئولية الإنسانية المشتركة في الدم والنسل الآدمي الواحد بالتجانس والتواصل والتضامن والتعاون والتكامل في بناء الحياة..

وفي سياق البحث عن  جذور التسامح بركائزه المساندة في العلاقات الإنسانية وتجاربها الممتدة في عمق التاريخ قل أن نجد لها مكان في الوعي المتجذر على بساط الواقع فيما نجد الأحقاد والكراهية ونزعات الانتقام ترسم خارطة التشظي والصراع في كل اتجاه ..

من هنا كانت قضية التسامح قضية مطلبية تستوجب في البدء معالجة السياسات بروح الوفاق على الشراكة الإنسانية في الحياة والعمل على احتواء المنازعات والخصومات المتعذرة برسم الدواعي والأسباب  المتغلغلة في نزعات وطموح القلة الحاكمة في كل دولة  نزولاً عند استحقاق الشعوب للتعايش الآمن واحترام حقوقهم المشروعة في الحياة..

8-الوفاق 

وهو روح الانسجام في عقد المحبة تعزو بداهته توطين التقارب قيمة أخلاقية يسوسها الود  بساط التزام واجب عماده الإخلاص مزية للترابط يحكم الوجدان بالتعاطي بروح المسئولية نحو الاخر تحققاً بنبل السجية وكرم الأخلاق في التواصل والتفاعل..

والوفاق سمة أخلاقية رفيعة تستقصي فضائلها تعميد وحدة العلاقات والروابط الإنسانية المعنية بتجسيد الشراكة المتضامنة في الحياة ولها في جذور النفس وعي التخلق بروح الشهامة والمروءة والرحمة في صلة الرحم والعطف على الضعيف والمريض والمحتاج..

وفضيلة الوفاق بروابطه الأخلاقية أن للمحبة في تشكيل طبيعة النفس مقومات الوحدة الأخلاقية للتحقق بالتوازن المعني بانتظام علاقات الفرد مع المحيط ، فيما قد تتناسب وتختلف باختلاف أنماط العلاقات المتسلسلة ومحدوديتها الوفاقية بين الأطراف ..

ولذلك حين تتجزأ القواعد الأخلاقية للقيمة تصبح حكماً على الصيغة المفردة لعلاقتها الوفاقية كالمودة الارتباطية بين طرفين أو تعلق الأبوين بأبنائهم ومثلها الترابط الأسري وغيره والتي قل أن تجسد روح الوفاق العام ..

وهو الأمر الذي أرسى تحلل قيم الوفاق في النفس البشرية والعلاقات الاجتماعية إلى ظواهر مفككة روابطها المصالح والمقاصد والغايات الآنية تتماهي بسقوطها أو انتفائها تحول التقارب الى التباعد والترابط إلى التفكك والود إلى القطيعة وفي ذلك ما يستوجب النظر إلى القيمة بوعي التجرد والامتثال للهدف الإنساني الواحد..

9- التوازن    

وهو شرط الاستقرار وعقد ثباته يرتسم بوعي الانضباط قاعدة للانتظام الفردي والعام تسترقي ثوابته تجسيد السكينة والهدوء في طبيعة النفس بامتداد علاقات وروابط الحياة..

فكيان الإنسان بنيته كم من الأفكار المتداخلة في أيقونة النفس بصيغة المشاعر والرغبات والدوافع والنزعات والانطباعات المتشابكة حول توجيه الإرادة وغالباً ما تُكتسب بأرجحية التراكم والتشكل العشوائي ويجسد وعيها تقييد السلوك الباطن بالصراع والقلق والخوف وانعدام التوازن بموازاة الاستقرار..

وتلك الحالة تنعكس بدورها على الواقع الاجتماعي كنتاج للفكر السياسي والاقتصادي الغير متوازن والأداء الموازي للتراكم في خلق عوامل التوتر كالفقر والبطالة والظلم والقهر والفساد والاستغلال وتجذر حالات  التفكك والصراع وانعدام الأمان ..

من هنا كانت قضية التوازن قضية مطلبية للفرد في بناء الذات صلة وصل بالنظام الاجتماعي بامتداد علاقاته السياسية والاقتصادية بالشعوب الأخرى تسترقي مفاصله تمثيل المقاييس المستقيمة قاعدة للبناء  المعني بتوثيق علاقات وروافد الاستقرار ..

10-  الارتقاء  

والارتقاء من الرقي سمة أخلاقية واعتبارية ارتبطت بقيمة الإبداع ركيزة قاعدية للتطور والتمدن الحضاري بالتلازم مع تمثيل البذل والعطاء والتفوق قرينة عملية للتميز في الإنتاج وأخرى معرفية للاستكشاف تستحضره في السياق العام دلالتين :

ا-الارتقاء بوسائل الحياة في سياق تقريب المسافات وتسهيل إمكانات الحياة.

ب-الارتقاء بالحس الحضاري للشعور العام في جدوى التفاعل المشترك الموازي للتطور الحضاري في الشكل والمضمون كالحفاض على البيئة والنظافة والصحة العامة وغيرها .

وموجبات الارتقاء ضرورة حتمية تستقصي معطياته تعزيز البناء وتوجيه القدرات المعرفية والإنتاجية لخلق الظروف الموائمة للتجدد المتصاعد نحو تجسيد سبل الانتظام ..

11- الكمال         

وهو القيمة الجامعة لفضائل التخلق بالمحاسن السوية في روح الجمال يستحضره النسق والتناسب والتمازج والانسجام صيغة موحده للوفاق المتفرد بالتأثير الحسي والمعنوي والحضور الاستثنائي في تكامل السمات ..

فهو في الأخلاق عقد توافقاتها على انسجام المشاعر والأحاسيس في توثيق العلاقات والروابط بين الناس وانتظامها وفي الطبيعة وحدة التناسب المتناسق للمظاهر الحسية المقترنة بتمثيل الذوق الحسي للجمال وفي الفكر جوهر المنطق المتسامي في إبداعات الخيال وفي الفن روح التأثير في تناغم الوجدان والشعور بالجلال وفي الإنسان وحدة الجوهر والمظهر في صورة  القدوة والمثال ..

وحاجة البشرية للكمال ضرورة حتمية تستوجب تجسيد وحدة الصف للوفاق على القيم ركيزة أخلاقية تستقصي توثيق الضابط الاعتباري قاعدة روحية للإجماع على تمثيل دستور ونظام الحياة..

12-الخير

وهو عقد الخلاص من الشر والفضيلة العليا كمطلب أساس للإنسان والحياة ارتبط بتمثيل الغاية للسعادة بساط استحقاق وجوبه بناء جنة الدنيا قاعدة وفاقية للانتظام في الحياة بامتداد التحقق بنعيم الآخرة بعد موت الجسد..

فالإنسان كانعكاس للكون فقد اختزل تكوينه المادي عناصر الطبيعة الكونية بتناسباتها الوفاقية لاستمرار الحياة  تحتكم للطبيعة الحيوانية في متطلبات إشباع حاجه الجسم المادي للبقاء..

وفي المقابل اختزل عقله دلالات الخير والشر قاعدة للوعي والإدراك والقياس والتفكير والتوجيه وجوب امتحان مضمر بحرية الاختيار بين الارتقاء بالنفس الحيوانية إلى مستوى ثبات العقل في احتراز الخير قاعدة بناء تلازماً مع تمثيل الصفة الإنسانية أو الامتثال للطبيعة الحيوانية الموجهة للإرادة بحصيلة التراكم المعرفي لمتطلبات الإشباع.. 

وصفة الاختبار والخيار أن الإنسان في تمثله للعقل تحقق بالتكليف في بناء عالمه الخاص صيغة كونية مماثلة لوحدة النظائر في تكوينه وجوب انتظام ثابته الأساس الارتقاء بالإحساس إلى مرتبة السعادة المضمرة بالتخلق بقيم الخير عقداً وفاقياً لانتظام النفس مع الوجود يسترقي ميزان حضورها تحقق الروح بعد موت الجسد بالاستحقاق المماثل في عالم الأبدية..

وعلى العكس من ذلك إذا ما تمثل البناء تحرر النفس من قاعدة العقل والتزمت الطبيعة الحيوانية للتشكل المتدرج من تصدر الرغبات والدوافع والأهواء والنزعات والطباع لقياد وتوجيه الإرادة على التحقق بالشر يتماهى بموجباته بناء عالم الذات قاعدة مفككة تختزل طبيعتها ظلامية الوعي والتداخل والصراع قرينة انحراف ثابته انعدام التوازن والاضطراب والشقاء..

وهو الأمر الذي عكس نفسه على تجذر مظاهر الشقاء في  الحياة واقعاً مفترضاً صاغت طبيعته عوامل التفكك والصراع معوقات ومعضلات الوفاق والانتظام مع الحياة تدرجاً من بناء النفس إلى منظومة العلاقات المركبة منذ بداية وجود الإنسان حتى يومنا هذا..

وباعتبار مقتضى الخلاص من الشر أصبح يشكل ضرورة حتمية لإنقاذ الحياة والإنسان في كوكبنا من تراكمات العصور فموجبات الإصلاح والتغيير تسترعي دراسة المعضلات من  واقع التجذر وصولاً للقيمة الرأسية التي أفرزت  عوامل الشر نستخلص تشخيصها  في الجزء التالي (نظرية الحل) والدولة العالمية..


الصففحة التالية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق