نبوءة العقل

نبوءة العقل

العقل في إشكالية التاريخ

 

إن قوة الإنسان وعظمته ومجده لا تكمن في حجم العضلات المفتولة ولا في سلطانه وماله ونفوذه وقدرته على السيطرة والتحكم بمصير الآخرين، وإنما تكمن في استنارة العقل وبصيرته النافذة بسمو الحكمة والمعرفة لاستيعاب ومعالجة قضايا ومشكلات الوجود والحياة واستقامة فكره وسلوكه على تجسيد المعايير الأخلاقية لوحدة العلاقات الإنسانية وروابطها المتسلسلة في تشكيل منظومة الوجود الواحد..

فالقوة دون ضابط شر مطلق والمال من غير مبدأ شيطان أعمى والسلطان والنفوذ دون ضمير جبروت وطغيان وكل وسيلة تنزع بالإنسان لفرض السيطرة والتحكم بحياة ومصير الآخرين هي لعنة بيدقها الجهل والغرور وسائسها التطلع للمجد الزائف ونهايتها  السقوط في مزبلة التاريخ والاندثار بين أطلاله..

لذلك حين  نبحث عن جذور الشر المتأصل في طبيعة الوعي البشري بمسالكه المتشعبة عبر تحولات العصور سنجده وثيق الصلة بمعضلتي العقل والمعرفة المتشاكلتين بين تعويم دراسات العقل بسيكولوجية النفس وبين تقييد المعرفة بنطاق الهدف المتشابك في شتات الخلاف والاختلاف وتماهي تضييق الحلول الفاصلة في قضاياها على تأسيس منهجية الصراع قاعدة للتعاطي بقوانين الغاب في البقاء للأقوى ..

وكذلك حين نبحث في معضلات الوجود والحياة وحركة التاريخ بمجمل تجاربه وقضاياه وأحداثه وأزماته بانعكاساتها على تجسيد طبيعة الشر في خارطة الواقع المترابط مع تعقيد سبل التعايش في الحياة ،  فنحن بذلك دون شك ندور في فلك المتاهة الزمنية المتعثرة بين إشكالية العقل والمعرفة قياساً بخلفية النتاج المتجذر  في تصدير معطيات الخلاف والاختلاف لعوامل التفكك والصراع..

ولذا نجد أهم القضايا التي استأثرت بالجزء الأوسع من دراسات العقل تلتقي عند محاولة تشخيص طبيعة العلاقة بين الحسي والعقلي في سياق تضمين الوظائف والخصائص الذهنية واختلاف أدواتها المعرفية وعلاقة كل منها بالحالة الجسدية وخاصة الدماغ فيما خلصت بعض المدارس إلى أن هنالك وظائف أخرى تهتم بطبيعة العقل المجرّد عن أيّة علاقة بالجسم كالإدراك وطبيعة الحالات العقلية الخاصّة ..

والقضية محور الإشكال أن تفكيك معضلة العقل وقفت على خط المحاولات التوفيقية بين من يرى ثبوت المعرفة في الحس كمعيار للتجربة ومن يرى بالمعرفة الفطرية علة جوهرية لاستيعاب الذهن وقراءة ما يدور حوله وآخر يرى أن المعرفة تعتمد على نور الطبيعة الفطري الذي يتيح لنا رفض الاستجابة لتضليل الحواس ويكشف الغطاء عن بنية الواقع الجوهرية..

من هذا الاشتباك كان سبيلي للبحث عن إشكالية العقل أشبه بالمتاهة المتعذرة في استفراغ الجهد في المقاربات القياسية والغور في أعماق النفس ودهاليزها المصمتة والتي حكمتني في كثير من المحاولات أن أقع فريسة للتناقضات  والتي ظلت تسير على منهاج التوثيق النفسي للدلالة..

وعلى خط المتاهة الزمنية استوقفتني كثيراً محاور الالتباس حول استقراء الشاهد من منفذ المقاربة والاستفهام:

كيف التقت البشرية منذ بداية التاريخ على تقييد الشر بانحراف النفس البشرية ؟ فيما تجيز في شتات المعرفة الخلافية بتعدد مناهجها واتجاهاتها الفكرية المتجذرة في خلق الأزمات والحروب المتسلسلة في حركة التاريخ على أنها من نتاج العقل! 

وعلى هامش المقاربة والقياس : هل بمعيار النتاج المتناقض للفكر الخلافي ما يجيز اقتران وظيفة العقل بتمثيل طبيعة النفس كمعيار مزدوج لاستيعاب المعرفة بالضرورات المفترضة لتطلعات كل فرد قاعدة لتوجيه قدراته للبحث عن  وسائل التمكين ؟

وهنا إذا ما وقف القياس عند تأصيل العلاقة المزدوجة كتجريد لعقلنة النفس ففي موضوعية الاستدلال ما يصل بنا إلى نتيجة واضحة هي أن أنسنة العقل كقرينة للتميز عن سائر المخلوقات النوعية لا معيار له سوى تجسيد قدراته للارتقاء بحيوانيته إلى مصاف  الشر المطلق في تمثيل قوانين الغاب ..

وما نرمي إليه في  تضليل المعنى هو أن قيمة العقل للإنسان مالم تكن ركيزته الأساس تقييد الوعي بالمعرفة الصحيحة كقاعدة بنيوية لتوافقات الحياة في النفس قرينة منضبطة مع التحقق بانتظام علاقة الفرد مع المجتمع في تعاملات الحياة فحكم ما يتعارض معها ثبوت الاحتكام اللاإرادي للطبيعة الحيوانية في سلوك النفس قرينة منافية لوجود العقل في استيعاب  موجباته..

وتلك أيضاً هي في جدوى التحقق بالمعرفة البرهانية لها حكم المقوم الأساس لوحدة العقل في استيعاب قواعد التواصل الأخلاقي والتفاعل السليم من مقاصدها الشرطية للوفاق العام والتي تستوجب بالضرورة توثيق العقل للموازين القياسية في المعاملات ودراسة ومراجعة الأخطاء الشائعة في التجارب الزمنية وإعادة تصحيح المعرفة الخلافية من واقع تشريح مواطن القصور والنقص والشر والجهل في كل قضية من قضايا المعرفة كرافد للتحقق بالكمال ..

وفيما تصبح إشكالية المعرفة قيداً على  تناقضات العقل فمرتكز المعالجة النظرية تقتضي من حيث المبدأ أن نستوضح  مسالك الالتباس في المعنى من حيثية ما تعارفت عليه البشرية حول اقتران مفهوم العقل بقضايا المعرفة ومعضلاتها الزمنية المتعثرة في محاولة استيعاب معادلة الوجود وعلاقاته الارتباطية بالإنسان من تمحور الإشكال الزمني حول ثلاثة تساؤلات موضوعية هي :

-ما هو العقل ؟

-وأين العقل ؟

-ولماذا العقل ؟  

أولاً: ما هو العقل

حين نتساءل ما هو العقل : فبديهية السؤال توحي بأن هنالك إشكالية جوهرية تكمن في فهم طبيعة تكوين العقل ٌمن حيث كونه قوة من قوى النفس المادية أو كونه قوة منفصلة عنها بوظيفته وأدواته المعنية باستيعاب وانتاج المعرفة اللازمة لمعالجة قضايا ومعضلات الحياة.. وهي أيضاً الإشكالية المنظورة بتأسيس اقترانه بالدماغ والحواس كسمة مشتركة بين عامة البشر في مقابل اعتماد وحدة العقل في المعرفة ماهية البناء والحضور ..

وللفصل بين الإشكاليتين تقتضى الضرورة أن نستوضح علة التداخل من دلالات القيمة الارتباطية بأنسنة العقل كمنفذ للقياس  حيث نجد غالبية الأمم والشعوب ظلت عبر مراحل التاريخ ولا تزال تلتفي على التسليم بفرضية ارتقاء الإنسان عن سائر المخلوقات الحيوانية صلة بكونه المتفرد بخاصية تكوين العقل بالإضافة إلى صفة الحيوان الناطق..

وهي الفرضية التي تلتقي مع حيثية القياس(بأن الله خلق الإنسان على صورته في العقل قرينة للتميز بالقدرة المحمولة على تمكينه من السيطرة على الوجود) وفي الحالتين ما يستوجب المقارنة بالتجارب الزمنية ومفارقاتها في تمثيل النموذج لمعايير التميز..

 وعن الحالتين يتجلى الشاهد الزمني ممثلاً بسلوكيات الإنسان في حركة التاريخ والتي بلغت أعلى مراتب الهمجية في السقوط الأخلاقي ليس وحسب في التعاطي مع المخلوقات النوعية وفق قوانين الغاب وإنما أيضاً مع أخيه الإنسان والتي قل يتمثلها أي جنس من الحيوان .. كما لو جاز لنا تضليلها بتميزه بالعقل لوجدنا أن الحيوان برتقي عنه بمراحل وفي ذلك ما يؤسس التلازم في خلقه على صورة الخالق حكماً  بتجرده في صورة الشيطان..

وفي الحالة الثانية قد تستوقفنا القرائن الظرفية حول ما تعارفت عليه البشرية على تأسيس فرضية تكوين العقل في الدماغ وآليته أمام سؤال منطقي محوره الافتراضي :

-هل تختلف العقول بين البشر باختلاف حجم الدماغ كخاصية للتميز في التكوين الجيني المختلف مع كونها خاصية مشتركة بين البشر وجميع المخلوقات النوعية ؟.. أم تختلف باختلاف الكسب المعرفي في ماهية البناء والتركيب؟

وهو السؤال الذي يتطلب تفكيك الالتباس العارض بين الآلية والماهية من حيث استيعاب الدماغ لأنطولوجيا الوجود واختزاله لفيزياء الفكر وطاقاته الحسية ذاكرة خلفية للاسترجاع والقياس والتفكير والتمييز فيما قد ترتقي موازينها التراكمية عند البعض إلى ملكات ذهنية كالبديهة والخاطر والإلهام والذكاء والتصور والخيال والإبداع والتي تشكل بدورها محور المفارقة بين القدرات العقلية.. وتلك بدورها تخضع لتنامي وتطور القدرات المعرفية في تشكيل منافذ الاستيعاب  وقراءة الأبعاد الذهنية والحسية في منظومة الوجود..

وما نرمي إلية في هذا الصدد هو أن تقييد العقل بتركيبة الدماغ لا أساس له من الصحة باعتبار تكوينها المتشابه ينحصر على مجال النشاط فقط وهي بذلك تكون أشبه بالأرض التي يعيش عليها مجموعة من الناس فينعكس تفاعلهم ونشاطهم على تشكيل طبيعتها ومواردها ومنظومة علاقاتها سلباً أو إيجاب..

كما لو أجزنا حصر بنية العقل على منسوب التقييد المعرفي لكل شخص كما هو السائد في تصنيف الواقع لأصبح وجوده محمولاً على تمثيل آلية الحواس للتشابه العائم باستيعاب المعرفة الافتراضية بتبايناتها الخلافية منهجية ثابتة بمعيار القناعة..

ولو أمعنا النظر في متلازمات توظيفه لوجدنا السياق الموضوعي لاقتران ماهية تكوينه محكوماً بتعدد واختلاف ميادين المعرفة المجازة بتوثيق مرجعيتها الاختصاصية بالعقول المفترضة كالعقل الديني والعقل السياسي والعقل الفلسفي والاقتصادي وغيرها والتي شكلت تعارضاتها أزمة المعرفة في حركة التاريخ بإشكالاتها المتجذرة في رسم خارطة الواقع ..

وباعتبار أن إشكالية العقل وثيقة الارتباط بإشكالية المعرفة فالضرورة تقتضي استخلاص القرائن من منفذ المفاهيم والتعاريف التي صاغت توظيفه قراءات خلافية اختزلت طبيعته قرينة فردية للوعي الذهني تتجاوز السياق العام..  

  ففي التوصيف المعنوي وردت له معانٍ ومصطلحات متعددة منها ما جاء في معجم المعاني الجامع : (العَقْلُ هو ما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها وهو ما يكون به التفكيرُ والاستدلالُ وتركيبُ التصوُّرات والتصديقات).. كما يضيف أيضاً : والعقل أيضاً هو ما به يتميز الحسَنُ من القبيح  والخيرُ من الشر والحق من الباطل.. وهو ما نراه منافياً لما يقابل الغريزة..

و في الاصطلاح السائد لدى غالبية الدارسين فيُعرف العقل : على أنّه مجموعة القدرات المتعلّقة بالإدراك والتقييم والتذكّر والتفكير واتخاذ القرارات، كما ينعكس في بعض الحالات على تجريد الأحاسيس والتصورات والعواطف والرغبات والدوافع والخيارات المرتبطة باللاوعي بالإضافة إلى التّعبير عن السّمات الخاصة للشّخصيّة ..

أما في التوصيف اللغوي تلتقي معظم المعاجم العربية حول تعريفه اللفظي  بمعنى الحبس والتقييد والحجر والمنع..

وتلك التعاريف من وجهة نظرنا لاشك أنها تنطلق من توثيق المفارقات النسبية بين الشخوص بحيث ظلت بعيدة كل البعد عن تأسيس مفهوم شامل لمعنى العقل من حيث استيعاب الوعي الذهني لعلاقة الإنسان بالوجود قرينة لازمة للتواصل الموازي بقدر ما تستثني تقييد المعنى في  توصيف آلياته وقدراته المحمولة على طبيعة التكوين النفسي المتباين بين الأفراد باستثناء ما ورد في التعريف المجازي لوظيفته كجزئية تندرج ضمن مقومات بناء القدرة الذاتية على التمييز بين الحسن والقبيح ..

 فمن حيث السياق الموضوعي لتوصيف العقل بما يقابل الغريزة التي لا اختيار لها نجد التعريف أيضاً ينطلق من توثيق القدرات الذهنية للتفكير والتصور والاستدلال.. وتلك وإن حاول التعريف حصرها على ما يكون فيه تمييز الحِسن من القبيح والخير من الشر والحق من الباطل إلا أن الأساس في تمكين العقل من هذه الوظيفة كحد أدنى للإداء له مقدمات الإحاطة المعرفية بالموازين قاعدة توثيقية للوعي الذهني بخصائصها في سياق العمل على تجاوز منسوب الاستيعاب الغريزي والحسي للمعارف والتي تحتكم بدورها لطبيعة التفاعل اللاواعي في تحلل الفكر نتاجاً معرفياً لمحدودية العلاقة الظرفية للتفكير والانحياز لمؤثراتها في تقييد النفس بطبيعتها(رغبات وأهواء وطباع ودوافع) تحكم توجيه الوعي بمقاصدها ..

ومن حيث دلالة العقل اللغوية كما ورد تعريفه في بعض المعاجم العربية بمعنى التقييد والحبس والحجر والمنع وكذلك حصر التعريف على وظائف التفكير والاستدلال وتركيب التصورات وغيرها فإن القيمة تصبح في حصيلة الإدراك حكماً على توثيق الخطأ والصواب عقلاً متجرداً بمحدودية الكيان الوفاقي على تمثيل علاقاته الحصرية ، وفي ذلك ما يعني تخصيص المعنى قرينة وصفية مجسدة في ذهنية كل فرد بنسبة ما استوعب وعيه من مفاهيم وقراءات ومعارف متشابكة أو منتظمة مع المحيط ..

وما نستقصي توضيحه في هذا العرض أن مفهوم العقل المتعارف عليه بين عامة البشر ظل قيداً على تشخيص الوظائف الذهنية كآلية للإدراك والتواصل المعرفي المنعكس عن تجريدات اللاشعور الحسي لاتجاهات الذات  قرينة مفردة بتوثيق(العقل الباطن)لحصيلة الاستيعاب..

وهو ما نختلف معه كلية من حيث التشخيص المتباين لمفارقات الوعي بين البشر وتوصيفها عقولاً يتماهى أدائها في الحدود النسبية للتقييد المتشابك  بمحدودية قدراتها على التواصل والأداء..

لذلك نستخلص من تلك المقدمات ما يستوجب أن يؤسس توثيق الترابط بين مفهوم العقل والقيمة الوظيفية للأداء في أن يكون المعنى دليلاً على تشخيص وحدة البناء تضليلاً بالافتراض التالي:

العقل لغة يدل على الاستيعاب والتقدير المحكم وتصريفه من عَقِل فلان الشيء له دلالة الفعل أدرك أو علِمَّ أو عرف أو استوعب الفكرة المعقولة كالقول مثلاً: عقِل القاضي دوافع القضية بمعنى استوعب وقدر أسبابها وعقل المسئول واجباته بمعنى أدرك ما عليه من التزامات في تمثيل وظيفته..

وفي الاصطلاح يمكن تعريف العقل بأنه : بوصلة المعرفة في تمييز الخير من الشر والعلم من الجهل وعقد الاستنارة الضابط لإرادة النفس والموجه لتقويمها على الاستقامة الرافدة لانتظام علاقاتها المتسلسلة في الوجود والحياة والمنظور في تميز القلة من الشخوص بتوازن الإدراك المنضبط على التحقق بالحكمة وبعد النظر المتجرد بتمثيل الضمير الأخلاقي للحضور والأداء دليل استرشاد راجح التقدير والتدبير ..

وباعتبار ما يعنينا في فهم الإشكال يتمحور حول طبيعة تكوين الإنسان فمنفذ المعالجة يقتضي أن نستوضح وجوه المقارنة والقياس من ثلاثية التكوين(النفس والروح والعقل) كمرتكزات للبناء المتدرج في تقييد نمط الأداء الوظيفي لكل منها والمتسق مع تجسيد وحدتها لسيكولوجية الجسم المادي وهي كالتالي :

1-النفس: وهي(الأنا) السفلى المقيدة بالغريزة الحيوانية والمقننة باختزال التجربة العشوائية لروابطها المادية قرائن لعلاقاتها المحورية  تنتظم بدورها كقاعدة موجهة للنشاط الباطن المتدرج من تقييد اللاشعور لخصائصها رغبات ثم الى عواطف ثم دوافع ثم طباع تستحكم مؤثراتها بسيكولوجية العقل الباطن ..

وتتسم النفس بطبيعة الجهل من حيث تجردها بالذاتية المقيدة بانحسار أفق التكوين الغريزي على حدود الهامش المعرفي لارتباطاتها  المتداخلة مع سيطرة الرغبات والأهواء والدوافع على اتجاهات البناء المضطرب وتحول تراكماته المتشابكة إلى قيود وحواجز مانعة لقابلية الوعي والإدراك على الاستيعاب والفهم  ..

وباختزالها للجهل سمة طبيعية يصبح الشر هو النتاج المنعكس عن تجسيد المتناقضات للغموض الموازي لتطويق النفس بهاجس الخوف من المجهول والذي يشكل بدوره مصدر انبعاث القلق والاضطراب النفسي وتخلق الأمراض عن انعكاساتها الجانبية صلة بتقييد الإرادة في نطاق الاستيعاب قرينة متلازمة مع انحسار القدرة على محدودية التجربة المقيدة بالعجز كمسبب للانحراف باتجاهات الوعي نحو الارتهان لدوافع الشر مسلكاً للتمكين أو البحث عن الحلول في التواكل المفرغ بالامتثال لمشيئة الأقدار والاستلاب المتعثر بالارتهان للأمر الواقع  ..

2-الروح : وهي ما نجيز توصيفها بالمحيط الفلكي لنشاط الذات بوصفها الكيان المركب من توافقات النظائر في مكونات النفس والتي تختزل بدورها السمات الجوهرية للشخصية المقننة بتوثيق منظومة البناء لمفارقات القدرة بين الشخوص بطاقاتها الروحية المتسقة مع تجسيد طبيعة النشاط والتفاعل لنطاق  الحضور  والتأثير في المحيط..

وكما تؤسس الروح نظام البناء في تكوين الفرد فهي بذلك تختزل صفة(الأنا العليا) والضابط الأخلاقي لاتجاهات وسلوك الإنسان بوصفها قاعدة التنشئة المعرفية والتجربة العملية الموجهة لسُبل الارتقاء بحيوانية النفس أو العكس في استيعاب علاقاتها المحورية في التركيبة المتدرجة كصلة بمقاصدها الارتباطية بحركة وتفاعلات الوجود..

وباعتبار دلالة الروح ارتبطت بمعنى الحياة كما تشخص الحياة علة الحركة والنشاط فمحور تجسيدها منوط بتجريد الحواس كأدوات وظائفية تختزل طبيعة العناصر في تراكمات النشاط الباطن قرائن للوعي الحسي بالنظائرفي حركة الوجود والتي غالباً ما تنحصر قراءاتها في إطار المحيط الفلكي لعلاقات وروابط الكيان بالعالم الخارجي..

ومعنى المحيط الفلكي للذات هو النطاق الحسي الذي يؤطر مساحة القدرة في حدود منسوب الطاقات المخزونة للعناصر كقدرة العين على تحديد وقراءة ملامح الأشياء والأذن على استيعاب متغيرات الاصوات ومثلها أيضاً الشعور الحسي بالود والاشتياق لمن تحب والتي قد تصل إلى تجاذب الخواطر أو الكراهية أو النفور من بعض الأشخاص ..

وعن توافق واتحاد طاقات وقوى الروح تتخلق الملكات الإبداعية المجردة بتميز القلة من الشخوص بالخوارق والمعجزات والقدرات الخاصة والتي غالباً ما تبرز كنتاج للتوحد الحسي بطاقات الوجود وقوانينه والتي لا تمت إلى قوى النفس الطبيعية بصلة كما يراها البعض في تلازم اقتران العقل بها..

3-العقل: وهو في دلالة التميز البشري عن غيره من الأجناس عقد المعرفة بقاعدة الشراكة الأخلاقية المقنن بتأسيس وحدة الإنسانية بالخالق في الغاية صلة بتمثيل الضمير الأعلى مناط الحكمة والقياد الموجه لمنظومة البناء بموازين المعرفة بقضايا الخير والشر ومقاصدها العملية لسُبل انتظام علاقات وروابط الفرد بالوجود والحياة ..

والعقل من حيث دلالات تكوينه هو كيان منفصل بذاته في تمثيل منظومة البناء لوظائفه في الأداء والتواصل بحركة الوجود واستيعاب قوانينه ومعادلاته كمشروع للارتقاء بمقومات استقرار الحياة..

مثال ذلك قد يحتكم اتجاه الفرد لإرادة النفس في التعاطي مع المحيط في حدود تمثيل تطلعاتها للانحراف بسلوكه فيجد العقل ينبري له مخاطباً ومحذرا من سوء العاقبة في محاولة الحيلولة بينه وبين الخطأ وهنا تكون الغلبة لقوة التأثير والقدرة على السيطرة  ..

 وما نجيزه في تأسيس العقل كيان منفرد بذاته أن وجه القياس في تضليله يستند على أن الله خلق الإنسان(آدم) على صورته في العقل قرينة متلازمة مع تحققه بالعلم بحقيقته المنظومة على ثوابت القاعدة الكونية لدلالات الخلق والتكوين مرتكزاً لصلته به يختزل الغاية في إطلاق الحرية له في الاختيار بين ُسبل الخير والشر كمناط للتكليف فيما كان لانفراط هذا العقد في توثيق الخطيئة لانحرافه حكم تجريده من العلم بالارتهان لظلامية النفس وتبعاتها في السقوط في دورة الشقاء ومعه جميع الأبناء..

وهنا حين تحكمنا فرضية القياس بالإجابة على التساؤل ما هو العقل : فمنظورنا للقيمة من خلق الله للإنسان على صورته لها في جدوى الاقتران بالقاعدة الكونية لمعنى وجود الخالق حكم تقييد ماهية العقل بالمعرفة الثابتة بحقيقة وجوده مقصداً لتأسيس روابط الإنسان  وعلاقاته الأخلاقية في منهج الحياة ..

من هذا المنطلق يؤسس مفهوم العقل معنى العقد الارتباطي بين الله والوجود والإنسان من حيث انعكاس المعقول والمحسوس على تقييد الوعي الذهني لحركة ونشاط لعالم الخارجي واختزال قراءاته وأحداثه منظومة بناء متدرج من تمثيل وظيفته لتقويم النفس إلى تحلل توافقاتها في الحواس إلى مشاعر وأحاسيس وسمات روحية منضبطة تنتظم بدورها مع تقييد الوعي الذهني لخصائصها الفيزيائية في الذاكرة دلالات معرفية للاستيعاب والتشخيص المماثل للنظائر..

وفي ضوء الاستيعاب تقترن وظيفته بصفة الدليل المعرفي الموجه لتواصل الإنسان بالوجود في تمثيل حصيلة الكسب للتمييز الفاصل بين العلم والجهل والخير والشر والثابت والمتغير والحق والباطل والخطأ والصواب والصدق والكذب ..

ثانياً: أين العقل ؟

 لقد تعودنا كأفراد وجماعات أن نختلف حول قراءة الأحداث والتجارب والظروف والأزمات وقضايا الفكر والعقيدة والأعراف والتقاليد والمفاهيم والثقافات والقيم الاجتماعية والسياسية والاقتصادية وكل منا يعتقد في رأيه لسان حال العقل عُرف متاهة عائمة بين  توظيف الخصوصية المعرفية قاعدة للاحتواء وبين محاولة تطويق الإشكال في تعويم سطحية الفهم والإدراك باختلاف وجهات النظر في الرأي ..

وعلى نفس المسار تعودنا كشعوب أن نتسامى بقيمنا الدينية والأخلاقية المتجانسة في تجريم القتل والسرقة والاحتيال والنهب والظلم والقهر والاغتصاب وهتك الأعراض والرشوة والاستغلال والفساد المالي والإداري وغيرها من مظاهر الانحراف بقيم التعايش الإنساني فيما تحكمنا الهوية الدينية والسياسية والعرقية بنزعاتها المتجذرة أن نتغاضى عن تطلعات أنظمة الحكم واتجاهاتها في تمثيل علاقاتنا مع استحقاقات الغير لنتعاطى مع غزو الشعوب المستهدفة وإبادتها ونهب ثرواتها وانتهاك أعراضها وسلب حقوقها المشروعة وغيرها من الجرائم بوعي الارتهان لما نجيزه بصراع المصالح بل وكثيراً ما نبرر لها بأن تسلك كل السبل المنحرفة في سبيل الوصول للأهداف دون وازع من ضمير ..

ولذلك حين نسترجع فصول التاريخ بأحداثه وصراعاته ومشاهده الدموية غالباً ما تطفوا على قراءاتنا سطحية الاستعلاء بموروث الأجداد وتمجيد  غزواتهم وانتصاراتهم على من أسموهم بالأعداء والتفاخر بالتنكيل بهم وسبي نسائهم واستعباد رجالهم دون النظر إلى عمق القضية ومحاذيرها في ترسيخ الموازين الأخلاقية الهابطة  قاعدة منهجية تنعكس تبعاتها على سقوط إنسانيتنا وتضييق تعاملاتنا في الواقع على تطبيع مشروعيتها ..

ومن وعي اختلاف الرؤية في توثيق قراءاتنا للتجارب والأحداث وميادين الفكر بقضاياه المستعصية قل أن تستوقفنا تبايناتها  المعرفية أمام  حتمية القياس  والتساؤل :

-هل العقل بالمفهوم العام سمة بشرية متباينة ترتكز على تشخيص قناعة كل فرد لاتجاهاته في التفكير معرفة نسبية للتعاطي بوعيها في تمثيل حضوره للخصوصية المجردة بتمثيل علاقاته مع الوجود؟ أم  قيمة إنسانية مشتركة تلتقي خصوصيته عند استيعاب كل فرد لقاعدته المعرفية منهجيه للتعايش الأخلاقي والتفاعل المنضبط بتوجيه قدراته المعرفية لجدوى انتظام مقاصد وتعاملات الحياة؟

ومبدأ التشخيص قد يقودنا أيضاً لاستيعاب دلالة وجود العقل من طبيعة تكوين الإنسان كمقاربة ضمنية بفرضية القياس والتساؤل:

هل الإنسان يولد بخاصية تكوين العقل؟  أم أن خاصية العقل تحتكم للبناء اللاحق أو المتلازم مع تكوين النفس والروح؟

وفي ذلك ما يصل بنا إلى تضليل فرضية أن يكون مولوداً بخاصية تكوين العقل بعلة الاقتران بالغريزة المقيدة بطبيعة النفس والتي تلتقي مع تأسيس مفارقات التباين المعرفي قاعدة لتثبيت الواقع بإشكالاته المتجذرة بتفكيك علاقات وروابط التعايش في الحياة  ..

وهو الدليل الذي يؤسس مبدأ القياس بموجبات البناء المعرفي قرينة ثابتة تعذر انتظامه كنتاج لتمحور إشكالية فهم طبيعة تكوين العقل في النتاج الزمني لأزمة المعرفة المرادفة لانحراف الإنسان بعقلنة النفس للاستيعاب المتباين قاعدة معرفية استحكمت جسور امتدادها بتفكيك علاقات ومقاصد الحياة..

وكون العقل معني ٌبتمثيل منظومة العلاقات المتسلسلة في وجدان الحياة ففي دلالات اقترانه بتميز الإنسان عن غيره من المخلوقات النوعية ما يجيز في تأسيس انحرافه ثبوت تعطيله أو تغييبه كقرينة متلازمة مع تشخيص الواقع لمعطيات الجهل بمسلمات وجوده قياساً بتضمين الاستدراك التالي :

هل استطاع العقل البشري رغم التحولات الزمنية لتطور الحضارات واتساع دوائر المعرفة الإنسانية والعلمية والارتقاء بالوسائل والأدوات أن يبلغ من النضج ما يرقى بإنسانيته عن الصفة الحيوانية في الوعي والقدرة والسلوك إلى جادة الانتظام والاستقرار في الحياة ؟ !..

وهو الاستدراك الذي يفتح باب المعضلة الزمنية لإشكالية الشر في الحياة على مصراعيها إذا ما جاز لنا أن نستقصي معالم الخطأ والصواب في تجاربه المعرفية وسلوكياته وأخلاقه وفيها ما يكشف بوضوح أن النتاج الزمني للحضارة التقليدية ومن ثم العلمية المعاصرة لم يتجاوز قيد أنملة مسألة توظيف عقلنة النفس الحيوانية أو الغريزية كقاعدة منهجية لسباق التفرد بموازين السيطرة وتطوير آلية الصراع بين الإنسان وأخيه الإنسان وانعكاساته على تدمير الطبيعة الكونية وتهديد الحياة على وجه الأرض ..

وفي ذلك ما يصل بنا إلى نتيجة قطعية دليلها أن الإنسان حتى يومنا هذا لم يبلغ مرحلة النضج العقلي المفترض ليس فقط في استيعاب مسئوليته الأخلاقية تجاه الآخر كقاعدة مشتركة للوفاق وإنما يتجاوزها إلى تراجع الوعي في التفكير والتعاطي السالب مع فهم معنى وجوده ومصيره في الحياة ..

وتفسير المعنى أن صلة العقل باستيعاب منظومة الشراكة الأخلاقية قد تتعذر من حيث قابلية النفس للانحراف والتجرد الذاتي حيث تنتظم سلوكياتها مع كل مسألة يتشكل بها الوعي الانطباعي في حدود ما استقامت عليه معطيات الاستيعاب اللاواعي من حضور وتمكين يمتثل نتاجه العشوائي لتداخل مؤثرات (الخير بالشر) في تقييد الوعي  بالمعرفة الانطباعية مروراً بتوثيق التناقض العشوائي قاعدة استقراء متشابك لمفاهيم الحياة ..

وفي ضوء ذلك يصبح تشخيصنا للواقع المسترسل في توثيق الموروث الزمني لمفارقات التجارب المعرفية والسلوكية ونتاجها الحافل بتفكيك نسيج العلاقات الإنسانية وتجذر محاور الشر منظور بغياب العقل وتقوقع الضمير البشري عامة في الطبيعة الحيوانية حضوراً متسلسل لتطبيع قوانين الغاب والارتهان اللاواعي لدوافع الأنا الفردية والجمعية وانحرافاتها..

وهو ما نستدل به ثبوتاً مؤكداً على أن مرجعية العقل في تميز الإنسان ظلت ولا تزال تتمحور حول توظيف قدراته للصراع وإن أضفى نتاجه بعض الروافد الاستثنائية المحمولة على تطور وسائل الحياة ..

وهو الأمر الذي يتنافى مع حيثية تجريد الصفة قاعدة توثيقية للعقل الجمعي بدلالاته القصدية المنظورة بتوجيه وظائفه للغاية المحمولة على استيعاب المعرفة المستقيمةً عقداً توافقيا لانتظام العلاقات الرافدة لتعزيز بناء القدرة  للارتقاء بوسائل النهوض بالحياة  وسبل تحقيقها..

وفي هذا الصدد قليلاً ما تستوقفنا معطيات العقل الافتراضي في التجارب الزمنية وانعكاساته المتسلسلة في تجسيد تداعيات الشر على الواقع ولو من باب الاستدراك والتساؤل المنظور باستحقاقاته:

أين العقل : من همجية الإنسان وتجرده بالنزعات العدوانية لقهر الآخر وامتهان كرامته وحقوقه المشروعة في الحياة ..

أين العقل : من اتساع مساحة الشر بقضاياه ومعضلاته الممتدة عبر حركة التاريخ نحو تطويق واقع الإنسان في الحياة ؟

أين العقل: من قضايا الخلاف والاختلاف والتفكك والصراع المسترسل في تمزيق الهوية الإنسانية الواحدة؟

أين العقل: من ارتهان الأمم والشعوب للموروث الزمني المتخلف بمشاريعه واتجاهاته الموجهة لاستعباد الإنسان والتحكم بمصيره في الحياة؟

 أين العقل: من انقياد الأمم والشعوب للتطلعات  والنزعات السلطوية للأطماع وتسخيرها لإبادة بعضها البعض ؟

أين العقل:  أين العقل من استغلال الأنظمة لمقدرات الأوطان والتفرد بتوجيهها للسيطرة على إرادة الشعوب ؟

أين العقل : من اتساع المظالم والقهر وتفشي دوائر الفساد والانحراف في أوساط الشعوب؟

أين العقل: من توظيف النظم لمقدرات الشعوب لسباق التسلح وبناء الأجهزة المخابراتية والتجييش الموجه ضد بعضهم البعض؟

أين العقل: من تفشي مظاهر البطالة والفقر في معظم الدول الغنية وسيطرة القلة المعدودين بالأصابع على ثروات الشعوب؟

أين العقل: من شعوب تعاني من المجاعات والأمراض بشتى أنواعها فيما يتحكم بثرواتها القلة من الفاسدين واللصوص ؟

أين العقل: من تحكم القلة بالأغلبية في تقرير مصير الإنسانية والحياة وكيف استطاع الشر أن يفرض وجوده في السيطرة على عالمنا؟

أين العقل: من تجرد غالبية النظم السياسية عن مسئوليتها في  تحقيق الأمان والسلام والاستقرار المعيشي والتعاطي مع السلطة كغنيمة؟

أين العقل : من صمت  الشعوب والمنظمات الدولية عن حياة الملايين من ضحايا جائحة كرونا والمتسببين بها وأهدافهم منها؟ 

 وعلى نفس المضمار كيف لنا أن نستوعب اتجاهات العقل بين مرتكزات الغاية من وجودنا ومجريات الأحداث والنتائج ؟

وهنا قد تؤسس الإجابة على تلك التساؤلات ما يصل بنا إلى نتيجة واضحة لا تقبل الشك أو المفارقة وهي أن العقل ظل غائباً على مدى القرون المتلاحقة في تاريخ الإنسان يتأرجح بين توظيف المعرفة الخلافية للتفكك والصراع باستثناء هامش القدرة على استيعاب وسائل التطور واستغلالها للأهداف المتعثرة في محيط الافتراق..

ولكي نستشعر دور العقل في استيعاب قوانين الوجود قاعدة مرجعية لتمثيل حضوره في علاقاتنا فالضرورة تقتضي أولاً تشخيص مكمن الشرخ الذي صاغ مجريات الأحداث والنتائج قراءات عبثية للمعرفة جاز توثيقها بنتاج  العقل في سياق تفكيكه..

ومكمن الشرخ في تجاذبات الواقع له في جذور التجارب الزمنية منعطف التحول في تغييب سلطات الحكم لمصفوفة القيم الروحية بدلالاتها المستقيمة كقاعدة ثابتة للعقل الجمعي في ركيزة البناء وإحلال البدائل المعرفية المنحرفة عن الوفاق بواقع توطين التفكك للنزعات العصبية محاور وقراءات تفاضلية استحكمت بها عوامل التطرف والسباق المتعذر بتمثيل المصالح..

وتلك القيم دليلها في طبيعة التشكل الوفاقي ثبوت وحدة الفكر في القيمة الكلية لمجموع الدلالات المعرفية شمولاً بتصفيف وحدة القيم في القيمة الأعلى تراتبا في مبدأ التسلسل وتوثيق التدرج عنها لمقدرات القدرة في طبيعتها على التصرف والخلق وتجريدها بالألوهة بوصفها العقل الجامع لوحدة الخير في انتظام موازين الوجود وقوانينه ..

كما أن لها في معنى خلق الله للإنسان على حقيقته العاقلة علة التوثيق المعرفي لمقاصد ودلالات الخير في ترجيح ثوابت الوجود الواحد كمبدأ عام لتمثيل وحدة العلاقات والروابط المشتركة قاعدة عقلية لانتظام مشروع الحياة ..

ثالثا: لماذا العقل؟

حين نبحث في موضوعية السؤال لماذا العقل ؟ قد تستوقفنا العديد من تفاصيل الواقع بمعضلاته المتلازمة مع تصاعد معوقات استقرار الإنسان في الحياة المنظورة في القياس المجازي بحاجة المريض للطبيب المتمكن علماً وتجربة من تشخيص العلل والأسباب وصولاً لتوصيف الدواء والإشراف على تطبيبه..

وشاهد الاقتران بالفرضية  أن العقل هو الحقيقة الغائبة عن الواقع بأمراضه المستفحلة في جذور الزمن موروثٌ ممتد بلغت محاذيره أقصى حدود انحرافات الإنسان وتجاوزاته البوهيمية في امتهان الطبيعة والحياة وصولاً إلى تهديد وجوده على سطح الأرض ..

ولذلك استحوذت دراسات العقل على أهم القضايا العالقة في متاهة البحث عن معضلات الوجود والحياة والحقيقة الغائبة في جدلية الفكر المتشابك والتي تصدرت رأس الإشكال الزمني المتعثر بين قراءات اللاهوت الديني ودراسات الفلسفة النظرية ثم مستجدات العلم التجريبي كقضية رأسية لمحاولة تفكيك معادلة الكون (الله والوجود والإنسان) فيما شكل حاجز الخلاف والفهم المتشابك حول تشخيص واستيعاب ديناميكية العلاقات الكونية وقوانينها الماورائية مفترق تغييب العقل حتى لحظتنا الراهنة..

وتضليل المعنى أن حاجة الإنسان لاستيعاب خاصية التميز بالعقل ليس في كونه وحسب ميزان المعرفة ولسان حال ميادينها في الاستكشاف والبحث عن وسائل الارتقاء بمقومات الحياة وانعكاسها المتناغم مع صياغة التأثير والتغيير وإنما لكون القيمة من تأسيس وجودة له في دلالة الخلق على صورة الخالق عقد الارتباط بوحدة البناء المتسلسل في تجسيد توافقات النظام الكوني للضابط الموجه لانتظام قوانينه قرينة مماثلة لتوثيق صلته وأدائه بعلاقات ومقاصد الحياة ..

وبتمثيل حضوره قرينة موازية للضابط الكوني ما يسقط ملابسات الخلط في تقييد الدلالة بهامش النفس والتي ظلت ولا تزال تجسد محور الإشكال في علاقة الإنسان بالوجود وفي مرتكزات تقويمه ستتجلى قدرات الإنسان على تشخيص ومعالجة الأمراض المستعصية في الواقع ناهيك عن تمثيل إمكاناته للابتكار والإبداع واستيعاب ميادين العلوم الإنسانية والعلم التجريبي لخلق الوسائل الكفيلة بتعزيز روافد التطور والارتقاء لاستقرار وانتظام الحياة..

وفي الوقت الذي يستحضر السؤال منفذ البحث عن مجمل قضايا وإشكالات الوجود والحياة قد لا نجد بين البشر سوى القلة ممن يُسّلمون قطعاً بأن تلك المشكلات لم يكن لها أن تظهر وتتسع دوائرها في الواقع لولا غياب العقل أو تغييبه في هامش المعرفة الخلافية وصكوكها التبعية التي صاغت مظاهر الفرقة والشتات بداية من توظيف الفكر الديني للهوية مفترقاً عقائدياً استحكمت قيوده بترسيم مظاهر التفكك الجغرافي والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والثقافي ومن ثم العرقي والسلالي والطائفي والمذهبي وانتهاءً بتطبيع السياسات لصراع المصالح التي انتجت بدورها عوامل الظلم والقهر والبطالة والفقر والفساد مروراً بتمكين سيطرة الشر على منافذ الحياة..  

 وفيما قد يخالف البعض هذا الرأي تعللاً بأن أحادية الفكر تتعارض مع جوهر الطبيعة البشرية حيث يرون أنه لولا الاختلاف والصراع ما ظهرت روافد الحضارة المادية وتحقق النتاج العلمي لتطور المعرفة بتقريب المسافات واختزال الأبعاد الكونية شواهد متصلة من المعارف والعلوم والاستكشافات التي تشكلت في سياق نماء الوعي وتدرجه الزمني في استيعاب  قوانين الوجود..  وهو رأي لاشك أن في قراءاته ما يجانب الصواب وفي ترجيح منهجيته ما يعزز ترسيخ منابع الشر في منحنيات الواقع ..

 ذلك أن قيمة العقل ووظيفته في تصورنا هي أشمل وأبعد من أن تقاس بالحالة الظرفية لتطور المعرفة بمعطياتها في إنتاج الوسائل دون تقدير  الجدوى لنتائجها في انعكاسات الأثر على حياة الشعوب  بحيث من المفترض أن تكون المقارنة بالقيمة المعيارية لانتظام جسور العلاقات الإنسانية وروافدها الفكرية والعملية في معالجة إشكالات الواقع وتعقيداته كمطلب رئيس لاستقرار وجودها في الحياة..

من هنا كان تضليل العنوان بالسؤال(لماذا العقل) مرتبطاً بضرورة  فهم مقتضيات تجسيده على أرض الواقع ليس فقط كركيزة لمعالجة قضايا التفكك والصراع وإنما أيضاً لمعالجة انعكاساتها الزمنية في خلق الظروف والمعوقات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتجذرة بتعزيز النظم السلطوية لانعدام التوازن في توطين مفارقات الجهل والتخلف والقهر والفقر والبطالة والفساد والانحرافات الأخلاقية وغيرها من عوائق الأمان والاستقرار..

ولعل الشاهد الغائب عن وعي الإنسان أن وجوده على سطح الأرض هو بالمعنى الموازي لبينة الفكر في ذاته ليس سوى صورة مماثلة لطبيعة تكوين الكوكب بوصفه مجرد خلية روحية استحكمت تناقضاته بالإخلال بموازين الحياة في خارطة الوجود الوحد..

وفي ذلك ما يعني أن مرتكز القيمة من فهمنا للعقل لا تقتصر على مكون الإنسان بصفة خاصة بقدر ما تؤسس وحدة الارتباط بين علاقاته المتسلسلة بدأً من وحدته بمنظومة الوجود إلى اقترانه بالفرد إلى المحيط الاجتماعي إلى النظم السياسية إلى الإقليمية فالإنسانية بمجمل قواعدها الأخلاقية وتعاملاتها وثقافاتها شمولاً بميادين المعرفة بوصفها عقولاً مجزئة يقتضي توحيدها تمثيل العقل الجمعي للمعرفة بها دليلاً لانتظام علاقات الوجود الواحد صلة بقاعدة وجود الخالق شاهد حضور في وحدته بمخلوقاته..


الصفحة التالية

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق

تعليق